1 الكتاب : آيات الأحكام 001


تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)

الكتاب : آيات الأحكام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
التحليل اللفظي
{ الحمد للَّهِ } : الحمد هو الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل .
قال القرطبي : الحمد في كلام العرب معناه : الثناء الكامل ، والألف واللام لاستغراق الجنس ، فهو - سبحانه - يستحق الحمد بأجمعه ، والثناء المطلق . والحمد نقيض الذم . وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد ، تقول : حمدت الرجل على شجاعته ، وعلى علمه ، وتقول : شكرته على إحسانه . والحمد يكون باللسان ، وأمّا الشكر فيكون بالقلب ، واللسان ، والجوارح . قال الشاعر :
أفادتكم النعماء منّي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبّا
وذهب الطبري : إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء ، لأنك تقول : الحمد لله شكراً .
قال القرطبي : وما ذهب إليه الطبري ليس بمرضي ، لأن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشكرُ ثناءٌ على الممدوح بما أولى من الإحسان ، وعلى هذا يكون { الحمد } أعمّ من الشكر .
{ رَبِّ العالمين } : الربّ في اللغة : مصد بمعنى التربية ، وهي إصلاح شؤون الغير ، ورعاية أمره ، قال الهروي : يقال لمن أقام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربّه ، ومنه سميّ ( الربانيون ) لقيامهم بالكتب .
وفي « الصحّاح » : ربّ فلانٌ ولده يربّه تربية أي ربّاه ، والمربون : جمع المربّي .
والرّب : مشتقٌ من التربية ، فهو سبحانه وتعالى مدبّر لخلقه ومربيّهم ، ويطلق الربّ على معان وهي : ( المَالك ، والمصلح ، والمعبود ، والسيّد المطاع ) تقول : هذا ربّ الإبل ، وربّ الدار ، أي مالكها ، ولا يقال في غير الله إلا بالإضافة ، ففي الحديث الشريف : « لا يقل أحدُكم : أطعمْ ربّك ، وضّيْء ربّك ، ولا يقل أحدكم ربيّ ، وليقل سيّديّ ومولاي » .
والربّ : المعبود ، ومنه قول الشاعر :
أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
والربّ : السيّد المطاع ، ومنه قوله تعالى : { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } [ يوسف : 41 ] أي سيّده .
والربّ : المصلح ، ومنه قول الشاعر :
يربّ الذي يأتي من الخير إنّه ... إذا سئل المعروف زاد وتممّاً
{ العالمين } : جمع عالَم ، والعالم : اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط والأنام .
قال أبو السعود : العالَم : اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تبارك وتعالى من المصنوعات .
قال ابن الجوزي : العالم عند أهل العربية : اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم ، فأمّا أهل النظر ، فالعالَم عندهم : اسمٌ يقع على الكون الكلّي المُحْدَث من فلَك ، وسماءٍ ، وأرضٍ وما بين ذلك وفي اشتقاق العالَم قولان :
أحدهما : أنه من العلم ، وهو يقوّي قول أهل اللغة .
والثاني : أنه من العلامة ، وهو يقوّي قول أهل النظر .
فكلُ ما في هذا الكون دالّ على وجود الصانع ، المدبّر ، الحكيم كما قال الشاعر :
فيا عجباً كيف يُعْصى الإله ... أم كيف يَجْحده الجاحد؟
ولله في كل تحريكة ... وتسكينةٍ أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد
قال ابن عباس : ( ربّ العالمين أي ربّ الإنس ، والجنّ ، والملائكة ) .
(1/1)

وقال الفرّاء وأبو عبيدة : العالَمُ عبارة عمن يعقل ، وهم أربعة أمم : ( الإنس ، والجنّ ، والملائكة ، والشياطين ) ولا يقال للبهائم : عالَم لأن هذا الجمع جمع من يعقل خاصةً ، قال الأعشى : ( ما إن سمعت بمثلهم في العالمين ) .
وقال بعض العلماء : كلّ صنف من أصناف الخلائق عالمٌ ، فالإنس عالم ، والجنّ عالم ، والملائكة عالم ، والطير عالم ، والنبات عالم ، والجماد عالم . . الخ فقيل : ربّ العالمين ليشمل جميع هذه الأصناف من العوالم .
{ الرحمن الرحيم } : اسمان من أسمائه تعالى مشتقان من الرحمة ، ومعنى { الرحمن } : المنعم بجلائل النعم ، ومعنى { الرحيم } : المنعم بدقائقها .
ولفظ { الرحمن } مبنيّ على المبالغة ، ومعناه : ذو الرحمة التي لا نظير له فيها ، لأن بناء ( فعلان ) في كلامهم للمبالغة ، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء : ملآن ، وللشديد الشبَع : شبعان .
قال الخطّابي : ف { الرحمن } ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمّت المؤمن والكافر .
و { الرحيم } خاص للمؤمنين كما قال تعالى : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] .
ولا يجوز إطلاق اسم ( الرحمن ) على غير الله تعالى لأنه مختص به جلّ وعلا ، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضاً قال تعالى : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] قال القرطبي : « وأكثرُ العلماء على أن الرحمن مختصّ بالله عز وجل ، لا يجوز أن يسمّى به غيره ، ألا تراه قال : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] فعادَل الاسم الذي لا يَشْركه فيه غيره : { أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] فأخبر الرحمن هو المستحق للعبادة جلّ وعزّ ، وقد تجاسر ( مسيلمة الكذاب ) لعنه الله فتسمى ب ( رحمان اليمامة ) ولم يتسمّ به حتى قرع مسامَعه نعت الكذّاب ، فألزمه الله ذلك حتى صار هذا الوصف لمسيلمة عَلَماً يُعرف به » .
{ يَوْمِ الدين } : يوم الجزاء والحساب ، أي أنه سبحانه المتصرّف في يوم الدين ، تصرّف المالك في ملكه ، والدينُ في اللغة : الجزاءُ ، ومنه قوله عليه السلام : « إفعل ما شئت كما تدين تدان » أي كما تفعل تجزى .
قال في « اللسان » : والدينُ : الجزاء والمكافأة ، ويومُ الدين : يوم الجزاء ، وقوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] أي مجزيّون محاسبون ، ومنه الديّان في صفة الله عز وجل قال لبيد :
حصادك يوماً ما زرعت وإنما ... يُدان الفتى يوماً كما هو دائن
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } : نعبدُ : نذلّ ونخشع ونستكين ، لأن العبودية معناها : الذلّة والاستعانة ، مأخوذ من قولهم : طريق معبّد أي مذلّل وطئته الأقدام ، وذلّلته بكثرة الوطء ، حتى أصبح ممهداً .
قال الزمخشري : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه ثوبٌ ذو عَبَدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم . فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع .
والمعنى : لك اللهمّ نذل ونخضع ونخصك بالعبادة لأنك المستحق لكل تعظيم وإجلال ، ولا نعبد أحداً سواك .
{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : الاستعانة : طلب العون ، قال الفراء : أعنتهُ إعانةً ، واستعنتهُ واستعنت به ، وفي الدعاء : ربّ أعنّي ولا تُعِنْ عليّ ، ورجل معوان : كثير الإعانة للناس ، وفي حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله )
والمعنى : إيّاك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك في أمورنا كلها ، فلا يملك القدرة على عوننا أحد سواك ، وإذا كان من يكفر بك يستعين بسواك ، فنحن لا نستعين إلا بك .
(1/2)

{ اهدنا } : فعل دعاء ومعناه : دلّنا على الصراط المستقيم ، وأرشدنا إليه ، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنْسك وقُربك .
والهداية في اللغة : تأتي بمعنى الدلالة كقوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] وتأتي بمعنى الإرشاد وتمكين الإيمان في القلب كما قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . . } [ القصص : 56 ] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم هادٍ بمعنى أنه دالّ على الله { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ولكنه لا يضع الإيمان في قلب الإنسان . وفعل هدى يتعدى ب ( إلى ) وب ( اللام ) كقوله تعالى : { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقوله : { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقد يتعدّى بنفسه كما هنا { اهدنا الصراط } .
{ الصراط المستقيم } : الصّراط : الطريقُ ، وأصله بالسين ( السّراط ) من الاستراط بمعنى الابتلاع ، سميّ بذلك لأنّ الطريق كأنه يبتلع السالك .
قال « الجوهري » : الصّراط ، والسّراط ، والزّراط : الطريق قال الشاعر :
وأحملهم على وَضِح الصّراط ... أي على وضح الطريق .
قال القرطبي : أصلُ الصراط في كلام العرب : الطريق ، قال الشاعر :
شحنّا أرضهم بالخيل حتّى ... تركناهم أذلّ من الصراط
والعرب تستعير ( الصراط ) لكل قولٍ أو عملٍ وصف باستقامةٍ أو اعوجاج ، والمراد به هنا ملّة الإسلام .
{ المستقيم } : الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، ومنه قوله تعالى : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه . . . } [ الأنعام : 153 ] وكلّ ما ليس فيه اعوجاج يسمّى مستقيماً .
ومعنى الآية : ثبّتنا يا ألله على الإيمان ، ووفقنا لصالح الأعمال ، واجعلنا ممن سلك طريق الإسلام ، الموصل إلى جنّات النعيم .
{ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } : النعمةُ : لينُ العيش ورغده ، تقولُ : أنعمتُ عينَه أي سررتها ، وأنعمتُ عليه بالغتُ في التفضيل عليه ، والأصل فيه أن يتعدّى بنفسه ، تقول : ( أنعمتُه ) أي جعلته صاحب نعمة ، إلاّ أنه لمّا ضمنِ معنى التفضل عليه عدّي بعلى { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
قال ابن عباس : هم النبيّون ، والصدّيقون ، والشهداء ، والصالحون ، وإلى هذا ذهب جمهور المفسّرين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
{ المغضوب عَلَيْهِم } : هم اليهود لقوله تعالى فيهم : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ آل عمران : 112 ] وقوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير . . . } [ المائدة : 60 ] .
{ الضآلين } : الضلاّل في كلام العرب هو الذهاب عن سَنَن القصد ، وطريق الحق ، والانحراف عن النهج القويم ، ومنه قولهم : ضلّ اللبن في الماء أي غاب ، قال تعالى : { وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض . . . } [ السجدة : 10 ] أي غبنا بالموت فيها وصرنا تراباً ، وقال الشاعر :
(1/3)

ألم تسأل فتخبرْك الدّيارُ ... عن الحيّ المضلّل أين ساروا
والمراد بالضالين ( النّصارى ) لقوله تعالى فيهم : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] .
وقال بعض المفسّرين : الأولى أن يُحمل { المغضوب عَلَيْهِم } على كلّ من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفُساق ، ويُحمل { الضالّون } على كل من أخطأ في الاعتقاد ، لأنّ اللفظ عامٌ ، والتقييد خلاف الأصل ، والمنكرون للصانع والمشركون أخبثُ ديناً من اليهود والنّصارى ، فكان الاحتراز عن دينهم أولى ، وهذا اختيار الإمام الفخر .
وقد ردّه الألوسي لأن تفسير المغضوب عليهم والضالين ب ( اليهود والنصارى ) جاء في الحديث الصحيح المأثور فلا يُعتد بخلافه .
وقال القرطبي : « جمهور المفسّرين أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى ، وجاء ذلك مفسّراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ( عديّ بن حاتم ) وقصة إسلامه » .
وقال أبو حيان : وإذا صحّ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب المصير إليه .
أقول : ما ذكره الفخر الرازي ليس فيه ردّ للمأثور ، بل إنّه عمّم الحكم فجعله شاملاً لليهود والنصارى ولجميع من انحراف عن دين الله ، وضلّ عن شرعه القويم ، حيث يدخل في اللفظ جميع الكفّار والمنافقين ، وإليك نصّ كلام الإمام « الفخر » .
قال رحمه الله : « ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفّار ، والضّالون هم المنافقون ، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آياتٍ من أوّل البقرة ، ثم أتبعه بذكر الكفار ، ثمّ أتبعه بذكر المنافقين ، فكذا هنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم أعقبه بذكر الكفار وهو قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } ثمّ أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : { وَلاَ الضآلين } .
آمين : كلمة دعاء وليست من القرآن الكريم إجماعاً ، بدليل أنها لا تكتب في المصحف الشريف ، ومعناها : استجب دعاءنا يا رب .
قال الألوسي : ويُسنّ بعد الختام أن يقول القارئ ( آمين ) لحديث أبي ميسرة » أنّ جبريل أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب ، فلما قال : { وَلاَ الضآلين } قال له : قل : آمين فقال آمين « .
قال ابن الأنباري : وأمّا ( آمين ) فدعاء ، وليس من القرآن ، وهو اسم من أسماء الأفعال ومعناه : اللهمّ استجب ، وفيه لغتان : القصرُ ( أمين ) والمدّ ( آمين ) فالأول على وزن ( فعيل ) والثاني على وزن ( فاعِل ) .
قال الشاعر :
يا ربّ لا تسلُبَنّي حبها أبدَاً ... ويرحمُ اللهُ عبداً قال آميناً
وقال ابن زيدون :
غيظ العِدَى من تساقينا الهَوَى فَدَعَوْا ... بأن نَغَصَّ فقال الدهر : آمِنا
المعنى الإجمالي
علّمنا الله - تقدّست أسماؤه - كيف ينبغي أن نحمده ونقدّسه ، ونثني عليه بما هو أهله ، فقال ما معناه : يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي فقولوا : الحمد لله رب العالمين ، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم ، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد ، المتفرد بالخلق والإيجاد ، ربّ الإنس والجن والملائكة ، وربّ السماوات والأرضين ، وأنا الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، وعمّ فضله جميع الأنام ، فالثناء والشكر لله رب العالمين ، دون ما يعبد من دونه ، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح ، وهداية الخلق إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فهو السّيّد الذي لا يبلغ سؤدده أحد ، والمصلح أمر عباده بما أودع في هذا العالم من نظام ، يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الإنسان والنبات والحيوان ، فمن شمسٍ لولاها ما وجدت حياة ولا موت ، ومن غذاءٍ به قوام البشر ، ومياه بها حياة النبات والحيوان ، وأنا المالك للجزاء والحساب ، المتصرف في يوم الدين ، تصرّف المالك في ملكه ، فخصوني بالعبادة دون سواي ، وقولوا لك اللهمّ نذلّ ونخضع ، ونستكين ونخشع ، ونخصّك بالعبادة ، ولا نعبد أحداً سواك ، وإيّاك ربّنا نستعين على طاعتك ومرضاتك ، فإنك المستحقّ لكل إجلال وتعظيم ، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك .
(1/4)

فثبتنا يا ألله على الإسلام دينك الحق ، الذي بعثت به أنبياءك ورسلك ، وأرسلت به خاتم المرسلين ، وثبتنا على الإيمان ، واجعلنا ممّن سلك طريق المقربين ، طريق النبيّين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً . ولا تجعلنا يا ألله من الحائرين عن قصد السبيل ، السالكين غير المنهج القويم ، من الذين ضلّوا عن شريعتك القدسية ، وكفروا بآياتك ورسلك وأنبيائك ، فاستحقوا اللعنة والغضب إلى يوم الدين . . اللهمّ آمين .
معاني الفاتحة في « ظلال القرآن »
يقول سيد قطب رحمه الله في تفسيره « الظلال » ما نصه :
( يردّد المسلم هذه السورة القصيرة ، ذات الأيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن ، ولا تصح صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة .
تبدأ السورة ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم في أول ما نزل من القرآن باتفاق ، وهو قوله تعالى : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أنّ الله ( الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ) فهو سبحانه الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجودٍ وجودَه ، ويبدأ منه كل مبدوءٍ بدأه ، فباسمه إذن يكون كل ابتداء ، وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه .
وإذا كان البدء باسم الله ، وما ينطوي عليه من توحيد لله ، وأدبٍ معه ، يمثّل الكلّية الأولى في التصور الإسلامي ، فإن استغراق معاني الرحمة في صفتي ( الرحمن الرحيم ) يمثّل الكليّة الثانية في هذا التصور ، ويقرّر حقيقة العلاقة بين الله والعباد وعقب البدء ب { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } يجيء التوجه إلى الله بالحمد ، ووصفُه بالربوبية المطلقة ، يمثّل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله ، والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن ، فإن وجوده ابتداءً ليس إلا فيضاً من فيوضات النعمة الإلهية ، وفي كل لمحة ، وفي كل لحظة ، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله ، وتغمر الخلائق كلها ، وبخاصة هذا الإنسان .
(1/5)

والربوبية المطلقة : هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل ، والغَبَش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة ، وشمولُ هذه الربوبية للعالمين جميعاً ، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة ، لتتّجه العوالم كلها إلى ربّ واحد ، تقرّ له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة .
وتبدوا العقيدة الإسلامية : في كمالها وتناسقها رحمة . . رحمةً حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقربٍ وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .
ثم تأتي هذه الصفة { الرحمن الرَّحِيمِ } التي تستغرق كلّ معاني الرحمة ، وحالاتها ومجالاتها ، تتكرر هنا في صلب السورة في آية مستقلة لتؤكد تلك الربوبية الشاملة ، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الربّ ومربوبيه ، وبين الخالق ومخلوقاته . . إنها صلة الرحمة والرعاية ، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة ، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة النديّة .
والتعبير بقوله : { مالك يَوْمِ الدين } يمثّل الكليّة الضخمة ، العميقة التأثير ، كلية الاعتقاد بالآخرة . والاعتقادُ بيوم الدين كلية من كليّات العقيدة الإسلامية ذات قيمة هامة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالَم آخر ، وهو مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا ، والصور المشوّهة المنحرفة التي لم يُقدّر لها الكمال ، وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ، ما لم تتحقّق هذه الكلية في تصور البشر ، وما لم يثق الفرد المحدود بأنّ له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها وأن يضحّي في سبيلها . وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعورٍ ، ولا خُلُق ، ولا سلوك ، ولا عمل ، فهما صنفان مختلفان من الخَلْق ، وطبيعتان متميّزتان ، لا تلتقيان في الأرض في عمل ، ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء . . وهذا هو مفرق الطريق .
وقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة ، فلا عبادة إلاّ لله ، ولا استعان إلاّ بالله .
وهنا كذلك مفرق طريق . . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة للعبيد ، وهي تعلن ميلاد التحرر البشري ، الكامل الشامل .
ولقد درج ( الغربيون ) على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم : « قهر الطبيعة » ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية ، المقطوعة الصلة بالله ، وبروح الكون المستجيب لله ، فأمّا المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبّحة لله رب العالمين ، فيؤمن بأن هناك علاقة أخرى ، غير علاقة القهر والجفوة ، إنه يعتقد بأن الله هو مبدع هذه القُوى جميعاًِ ، خلقها كلها وفق ناموس واحد ، وسخّرها للإنسان ابتداءً ، ويسّر له كشف أسرارها ، ومعرفة قوانينها ، وأنّ على الإنسان أن يشكر الله كلّما هيأ لَه أن يظفر بمعونة من إحداها ، فالله هو الذي يسخّرها وليس هو الذي يقهرها
(1/6)

{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] .
وبعد تقرير تلك الكليّات الأساسية في التصور الإسلامي ، يبدأ في التطبيق العملي { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته ، وهو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين ، وهذا الأمر أعظم ما يطلبه المؤمن من ربه ، فالهداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله ، الذي ينسّق بين حركة الإنسان ، وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين ، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فهو طريق الذين قسم لهم نعمته ، لا طريق الذين غضب الله عليهم . . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين .
ولعلَّ ذلك يكشف لنا عن سرّ من أسرار اختيار السورة ليردّدها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة ، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصلاة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
قال جعفر الصادق : « إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها ، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة ، والنميمة ، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً ، فيقرأ بلسان طاهر ، كلاماً أنزل من رب طيب طاهر » .
اللطيفة الثانية : المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وقد اشتهر هذا في الشعر والنثر ، قال الشاعر :
لقد بسملَتْ ليلَى غداةَ لقيتُها ... فيها حبّذَا ذاك الحبيبُ المبسملُ
وفي افتتاح القرآن الكريم بهذه الآية إرشادٌ لنا أن نستفتح بها كلّ أفعالنا وأقوالنا ، وقد جاء في الحديث الشريف : « كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر » أي ناقص .
فإن قيل : لماذا نقول بسم الله ، ولا نقول بالله؟
فالجواب كما قال العلامة أبو السعود : هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك ، فقول القائل : بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك . فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى ، ويقطع احتمال إرادة القسم .
اللطيفة الثالثة : يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى ، فقول القائل : ( بسم الله ) كقوله : ( بالله ) وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة :
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
أي ثمّ السلام عليكما ، وقد ردّ هذا شيخ المفسرين ابن الطبري .
قال ابن جرير الطبري : لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول لجاز أن يُقال : رأيت اسم زيد ، وأكلتُ اسم الطعام ، وشربت اسم الدواء ، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله ، ويقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يُقال : أكلتُ اسم العسل ، يعني أكلتُ العسل؟
أقول : الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك .
(1/7)

قال العلامة أبو السعود : وإنما قال ( بسم الله ) ولم يقل ( بالله ) وذلك للتفريق بين اليمين والتيمن ، يعني ( التبرك ) ، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة ، فذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمّى ، ويتعيّن حمل الباء على الاستعانة أو التبرك .
اللطيفة الرابعة : الفرق بين لفظ ( الله ) ولفظ ( الإله ) أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره ، ومعناه المعبود بحق ، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره ، وهو مشتق من ( ألَهَ ) ومعناه المعبود ، سواءً كان بحق أو غير حق ، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى ( آلهة ) جمع ( إله ) لأنها عُبدت بباطل من دون الله ، وما كان أحد يسمى الصنم ( الله ) بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل : من خلقك؟ أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول : الله ، وفيهم يقول القرآن الكريم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله . . . } [ لقمان : 25 ] .
اللطيفة الخامسة : في قولنا ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فوائد جليلة ، منها التبرك بذكر اسم الله تعالى ، والتعظيم لله عز وجل ، وطرد للشيطان لأنه يهرب من ذكر اسم الله ، وفيها إظهار لمخالفة المشركين ، الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم ، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى ، وفيها إقرار بالألوهية ، واعتراف بالنعمة ، واستعانة بالله تعالى ، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما ( الله ) و ( الرحمن ) .
اللطيفة السادسة : الألف واللام في ( الحمد ) لاستغراق الجنس ، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل ، والحمد التام الوافي ، إلاّ الله ربّ العالمين ، فهو الإله المنعوت بصفات الكمال ، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس ، والصيغة وردت معرّفة ( الحمدُ لله ) للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر ، لا حادث متجدّد ، فتدبره فإنه دقيق .
اللطيفة السابعة : فائدةٌ ذكر { الرحمن الرَّحِيمِ } : عقب لفظ { رَبِّ العالمين } هي أن لفظ ( الربّ ) ينبئ عن معنى الكبرياء ، والسيادة ، والقهر ، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع ، واليأس ، والقنوط ، لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب - جلّ وعلا - رحمن رحيم ، وأن رحمته وسعت كل شيء .
قال أبو حيّان : بدأ أولاً بالوصف بالربوبيّة ، فإن كان الرب بمعنى السيّد ، أو بمعنى المالك ، أو بمعنى المعبود ، كان صفة فعل للموصوف ، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية ، لينبسط أمل العبد في العفو إن زلّ ، ويقوى رجاؤه إن هفا .
(1/8)

قال ابن القيم : « وأما الجميع بين ( الرحمن الرحيم ) ففيه معنى بديع ، وهو أنّ ( الرحمن ) دالّ على الصفة القائمة به سبحانه ، و ( الرحيم ) دالّ على تعلقها بالمرحوم ، وكأنّ الأول الوصفُ ، والثاني الفعلُ ، فالأول : دالّ على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه ، والثاني : دال على أنه يرحم خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه ، فإذا أردتّ فهم هذا فتأمل قوله تعالى : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ولم يجيء قط رحمن بهم فعلمت أن ( رحمن ) هو الموصوف بالرحمة ، ورحيم هو الراحم برحمته » .
ثم قال رحمه الله : وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب .
ومجمل القول : أنَّ معنى ( الرحمن ) المنعم بجلائل النعم ، ومعنى ( الرحيم ) المنعم بدقائقها .
وقيل : إنهما بمعنى واحد ، والثاني لتأكيد الأول وهو رأي الصبّان والجلال ، وهو ضعيف فقد قال ابن جرير الطبري : لا توجد في القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود .
والراجح : ما ذهب إليه ابن القيم وهو أن الوصف الأول دال على الرحمة الثابتة له سبحانه ، والثاني يدل على تجدّد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة والله أعلم .
اللطيفة الثامنة : قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التفنن في الكلام ، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس ، واستجلاب القلوب ، وهذا ( الإلتفات ) ضرب من ضروب البلاغة ، ولو جرى الكلام على الأصل لقال ( إيّاه نعبد ) فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة ( الإلتفات ) ومثله قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ثم قال : { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } [ الإنسان : 22 ] وقد يكون الإلتفات من ( الخطاب ) إلى ( الغيبة ) كما في قوله تعالى : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] فقد كان الكلام مع المخاطبين ، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات .
قال أبو حيان في « البحر » : « ونظير هذا أن تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة ، مخبراً عنه إخبار الغائب ، ويكونذلك الشخص حاضراً معك ، فتقول له : إيّاك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ، ما لا يكون في لفظ ( إيّاه ) » .
اللطيفة التاسعة : وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } ولم يقل : ( إياّاك أعبد وإيّاك أستعين ) وذلك لنكتةٍ لطيفة ، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا ، وطلبه الاستعانة والهداية مفرداً دون سائر العرب ، فكأنه يقول : يا رب أنا عبد حقير ، ذليل ، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي ، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين ، وأدعوك معهم ، فتقبّل دعائي معهم ، فنحن جميعاً نعبدك ونستعين بك .
وتقديم المفعول على الفعل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يفيد القصر والتخصيص كما في قوله : { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] كما يفيد التعظيم والاهتمام به .
(1/9)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك .
قال القرطبي : إن قيل : لم قدَّم المفعول { إِيَّاكَ } على الفعل { نَعْبُدُ } ؟ قيل له : اهتماماً ، وشأنُ العرب تقديم الأهم ، يُذكر أنْ أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه ، فقال له السابّ : إيّاك عني ، فقال له الآخر : وعنك أُعرض ، فقدّما الأهم ، وأيضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود ، فلا يجوز نعبدك ، ونستعين ، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك ، وإنما يتبع لفظ القرآن ، قال العجّاج :
إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي ... واغفر خطايايَ وكثّر ورقي
وكرّر الاسم لئلا يتوهم إيّاك نعبد ونستعين غيرك .
اللطيفة العاشرة : نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل : ( غضبت عليهم ) وأضللتهم ، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل ، حيث لا ينسب الشرّ إليه ( أدباً ) وإن كان منه ( تقديراً ) كما قال بعضهم : الخير كله بيديك ، والشرّ ليس إليك .
فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 78-80 ] فلم يقل : ( وإذا أمرضني ) أدباً . وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن : 10 ] فلم يقولوا : أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق .
الدقائق البيانية في سورة الفاتحة
قال أبو حيان في تفسيره « البحر المحيط » : « وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب ، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب ، وكان عالماً بافتتان الكلام ، قادراص على إنشاء النثار البديع والنظام ، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :
النوع الأول : حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع ، وناهيك حسناً أن يكون مطلعها مفتتحاً باسم الله ، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة .
النوع الثاني : المبالغة في الثناء وذلك العموم ( أل ) في الحمد المفيد للاستغراق .
النوع الثالث : تلوين الخطاب في قوله : { الحمد للَّهِ } إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا : الحمد لله .
النوع الرابع : الاختصاص باللاّم التي في ( لله ) إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا .
النوع الخامس : الحذف وذلك كحذف ( صراط ) من قوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } التقدير : غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين .
النوع السادس : التقديم والتأخير في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وكذلك في قوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } وقد تقدم الكلام على ذلك .
النوع السابع : التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } حيث فسّر الصراط .
النوع الثامن : الإلتفات وذلك في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدنا الصراط المستقيم } .
(1/10)

النوع التاسع : طلب الشيء وليس المراد حصوله بل دوامه واستمراره وذلك في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } أي ثبتنا عليه .
النوع العاشر : التسجيع المتوازي وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرّوي وذلك في قوله تعالى : { الرحمن الرحيم . . . الصراط المستقيم } وقوله { نَسْتَعِينُ . . . وَلاَ الضآلين } .
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور { الحمد للَّهِ } بضمّ دال الحمد ، وقرأ سفيانُ بن عُيَيّنة ( الحمدَ الله ) بالنصب ، قال ابن الأنباري : ويجوز نصبه على المصدر بتقدير أحمد الله .
قال أبو حيان : وقراءة الرفع أمكنُ في المعنى ، ولهذا أجمع عليها السبعة ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى ، فيكون قد أخبر بأنّ الحمد مستقرّ لله تعالى أي حمدُه وحمدُ غيره .
ثانياً : قرأ الجمهور { ربّ العالمين } بكسر الباء وقرأ زيد بن عليّ { ربَّ العالمين } بالنصب على المدح أي أمدح ربّ العالمين ، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها كما نبّه عليه أبو حيّان وغيره .
قال القرطبي : يجوز الرفع والنصب في { ربّ } فالنصبُ على المدح ، والرفع على القطع أي هو ربّ العالمين .
ثالثاً : قرأ الجمهور { مَالِك يومِ الدّينِ } على وزن فاعل مالك وقرأ ابن كثير وابن عمر وأبو الدرداء { مَلِك } بفتح الميم مع كسر اللام .
قال ابن الجوزي : وقراءة ( مَلِك ) أظهر في المدح لأن كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكاً .
وقال ابن الأنباري : وفي مالك خمسُ قراءات وهي : مالك ، ومَلِك ، ومَلْك ، ومليك ، ومَلاَك .
رابعاً : قرأ الجمهور { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } بضم الباء ، وقرأ زيد بن علي { نعبِد } بكسر النون ، وقرأ الحسن وأبو المتوكل { إيّاك يُعبد } بضم الياء وفتح الباء .
خامساً : قرأ الجمهور { اهدنا الصراط المستقيم } بالصّاد وهي لغة قريش ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ( السّراط ) بالسّين على الأصل .
قال الفرّاء : اللغة الجيّدة بالصاد وهي اللغة الفصحى ، وعامة العرب يجعلونها سيناً ، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة ، ومن قرأ بالصّاد فلأنها أخفّ على اللّسان .
وجوه الإعراب
أولاً : { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } الجار والمجرور في { بِسمِ الله } اختلف فيه النحويون على وجهين :
أ - مذهب البصريين : أنه في موضع رفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : ابتدائي بسم الله .
ب - مذهب الكوفيين : أنه في موضع نصب بفعل مقدّر وتقديره : ابتدأتُ بسم الله .
ثانياً : قوله تعالى : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } الحمدُ مبتدأ ولفظ الجلالة خبره تقديره : الحمد مستحق لله ، و { رَبِّ العالمين } صفة ، ومثله { الرحمن الرحيم } و { مالك يَوْمِ الدين } كلها صفات لاسم الجلالة .
ثالثاً : قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اختلف المفسّرون في { إِيَّاكَ } فذهب المحققون إلى أنه ضمير منفصل منصوب بالفعل بعده وأصله ( نعبدك ) و ( نستعينك ) فلما قُدّم الضمير المتصل أصبح ضميراً منفصلاً ، والكاف للخطاب ولا موضع لها من الإعراب .
وذهب آخرون إلى أنه ضمير مضاف إلى ما بعده ، ولا يعلم ضمير أضيف إلى غيره .
(1/11)

قال أبو السعود : وما ادّعاه الخليل من الإضافة ، محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب : إذا بلغ الرجل الستين فإيّاه وإيّا الشوابّ ، فممّا لا يعوّل عليه . وذكر ابن الأنباري وجوهاً عديدة ثمّ قال : والذي اختاره الأول ، وقد بيّنا ذلك مستوفى في كتابنا الموسوم ب « الانصاف في مسائل الخلاف » .
رابعاً : قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . . . } { اهدنا } فعل دعاء وهو يتعدى إلى مفعولين المفعول الأول هو ضمير الجماعة ( ن ) في إهدنا ، و { الصراط } هو المفعول الثاني ، و { المستقيم } صفة للصراط ، و { صِرَاطَ } بدل من الصراط الأول .
خامساً : آمين : اسم فعل أمر بمعنى استجب .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل البسملة آية من القرآن؟
أجمع العلماء على أن البسملة الواردة في سورة النمل [ 30 ] هي جزء من آية في قوله تعالى : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ولكنهم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة ، ومن أول كل سورة أم لا؟ على أقوال عديدة :
الأول : هي آية من الفاتحة ، ومن كل سورة ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله .
الثاني : ليست آية لا من الفاتحة ، ولا من شيء من سور القرآن ، وهو مذهب مالك رحمه الله .
الثالث : هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور ، وليست آية من الفاتحة وهو مذهب أبو حنيفة رحمه الله .
دليل الشافعية :
استدل الشافعية على مذهبهم بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً - حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين ، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم ، إنها أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبعُ المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم أحدُ آياتها » .
ثانياً - حديث ابن عباس رضي الله عنهما « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم » .
ثالثاً - حديث أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت قراءته مدّاً . . ثمّ قرأ { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يَوْمِ الدين . . . } .
رابعاً : حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : ( بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاؤة ، ثمّ رفع رأسه متبسّماً ، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : نزلت عليّ آنفاً سورة ، فقرأ : { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } [ الكوثر : 1-3 ] .
قالوا : فهذا الحديث يدل على أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن أيضاً ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأها في سورة الكوثر .
(1/12)

خامساً : واستدلوا أيضاً بدليل معقول ، وهو أن المصحف الإمام كُتبت فيه البسملة في أول الفاتحة ، وفي أول كل سورة من سور القرآن ، ما عدا سورة ( براءة ) ، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه ، وتواتر ذلك مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن ، وكانوا يتشدّدون في ذلك ، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير ، ومن أسماء السّور ، ومن الإعجام ، وما وُجِد من ذلك أخيراً فقد كتب بغير خطّ المصحف ، وبمداد غير المداد ، حفظاً للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه ، فلما وجدت البسملة في سورة الفاتحة ، وفي أوائل السور دلّ على أنه آية من كل سورة من سور القرآن .
دليل المالكية :
واستدل المالكية على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ، ولا من القرآن وإنما هي للتبرك بأدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين »
ثانياً : حديث أنس كما في « الصحيحين » قال : « صلّيتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين » .
وفي رواية لمسلم : ( لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لا في أول قراءة ولا في آخرها ) .
ثالثاً : ومن الدليل أنها ليست آية من الفاتحة حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عزّ وجل : « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل .
فإذا قال العبد : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } . قال الله تعالى : حمدني عبدي .
وإذا قال العبد : { الرحمن الرحيم } . قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي .
وإذا قال العبد : { مالك يَوْمِ الدين } . قال الله تعالى : مجدّني عبدي - وقال مرة فوّض إليّ عبدي - .
فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل .
فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » .
قالوا : فقوله سبحانه : « قسمت الصلاة » يريد الفاتحة ، وسمّاها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ، فلو كانت البسملة آية من الفاتحة لذكرت في الحديث القدسي .
رابعاً : لو كانت البسملة من الفاتحة لكان هناك تكرار في { الرحمن الرحيم } في وصفين وأصبحت السورة كالآتي : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، الحد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ) وذلك مخلّ ببلاغة النظم الجليل .
خامساً : كتابتها في أوائل السور إنما هو للتبرك ، ولامتثال الأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور ، وهي وإن تواتر كتبُها في أوائل السور ، فلم يتواتر كونها قرآناً فيها .
قال القرطبي : « الصحيحُ من هذه الأقوال قول مالك ، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقهُ التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه .
(1/13)

قال ابن العربي : ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن ( البسملة ) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلاَّ في النمل وحدها .
ثم قال : إنّ مذهبنا يترجّح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول ، وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرّت عليه الأزمنة ، والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قطّ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) اتّباعاً للسُنّة ، وهذا يردّ ما ذكرتموه ، بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل ، وعليه تُحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك « .
دليل الحنفية :
وأما الحنفية : فقد رأوا أنّ كتابتها في ( المصحف ) يدل على أنها قرآن ولكن لا يدل على أنها آية من سورة ، والأحاديث الواردة التي تدل على عدم قراءتها جهراً في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست من الفاتحة ، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة - في غير سورة النمل - أنزلت للفصل بين السور .
ومما يؤيد مذهبهم : ما روي عن الصحابة أنهم قالوا : » كنا لا نعرف انقضاء السور حتى تنزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه « بسم الله الرحمن الرحيم » .
قال الإمام أبو بكر الرازي : « وقد اختلف في أنها آية من فاتحة الكتاب أم لا ، فعدّها قرّاء الكوفة آية منها ، ولم يعدّها قرّاء البصريين ، وقال الشافعي : هي آية منها وإنْ تركها أعاد الصلاة ، وحكى شيخنا ( أبو الحسن الكرخي ) عدم الجهر بها ، ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها ، وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة ، وما سبقه إلى هذا القول أحد ، لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها آية من ( فاتحة الكتاب ) أو ليست بآية منها ، ولم يعدّها أحد آية من سائر السور » .
ثم قال : « ومما يدل على أنها ليست من أوائل السور ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } [ الملك : 1 ] » واتفق القرّاء وغيرهم أنها ثلاثون سوى ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين وذلك خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل عليه أيضاً اتفاق جميع قرّاء الأمصار وفقهائهم على أن سورة ( الكوثر ) ثلاث آيات ، وسورة ( الإخلاص ) أربع آيات ، فلو كانت منها لكانت أكثر ممّا عدّوا « .
(1/14)

الترجيح :
وبعد استعراض الأدلة وما استدل به كل فريق من أئمة المذاهب نقول : لعلّ ما ذهب إليه الحنفية هو الأرجح من الأقوال ، فهو المذهب الوسط بين القولين المتعارضين ، فالشافعية يقولون إنها آية من الفاتحة ومن أول كل سورة في القرآن ، والمالكية يقولون : ليست بآية لا من الفاتحة ولا من القرآن { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولكنْ إذا أمعنا النظر وجدنا أن كتابتها في المصحف ، وتواتر ذلك بدون نكير من أحد - مع العلم بأنّ الصحابة كانوا يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآناً - يدلّ على أنها قرآن ، لكن لا يدل على أنها آية من كل سورة ، أو آية من سورة الفاتحة بالذات ، وإنما هي آية من القرآن وردت للفصل بين السور ، وهذا ما أشار إليه حديث ابن عباس السابق ( إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام ، والعربُ كانت ترى التفنّن من البلاغة ، لا سيّما في افتتاحاتها ، فلو كانت آية من كل سورة لكان ابتداء كلّ السور على منهاجٍ واحد ، وهذا يخالف روعة البيان في معجزة القرآن .
وقول المالكية : لم يتواتر كونها قرآناً فليست بقرآن غير ظاهر - كما يقول الجصّاص - إذ ليس بلازم أن يقال في كل آية إنها قرآن وتواتر ذلك ، بل يكفي أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابتها ويتواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد اتفقت الأمة على أن جميع ما في المصحف من القرآن ، فتكون البسملة آية مستقلة من القرآن كرّرت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى ، وهذا ما تطمئن إليه النفس وترتاح ، وهو القول الذي يجمع بين النصوص الواردة والله أعلم .
الحكم الثاني : ما هو حكم قراءة البسملة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في قراءة البسملة في الصلاة على أقوال عديدة :
أ - فذهب مالك رحمه الله : إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة ، جهراً كانت أو سرّاً ، لا في استفتاح أم القرآن ، ولا في غيرها من السور ، وأجاز قراءتها في النافلة .
ب - وذهب أبو حنيفة رحمه الله : إلى أن المصلي يقرؤها سراً مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة ، وإن قرأها مع كل سورة فحسن .
ج - وقال الشافعي رحمه الله : يقرؤها المصلي وجوباً . في الجهر جهراً ، وفي السرّ سراً .
د - وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : يقرؤها سرّاً ولا يسنّ الجهر بها .
وسبب الخلاف : هو اختلافهم في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هل هي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟ وقد تقدم الكلام على ذلك في الحكم الأول .
(1/15)

وشيء آخر : هو اختلاف آراء السلف في هذا الباب .
قال ابن الجوزي في « زاد المسير » : وقد اختلف العلماء هل البسملة ، من الفاتحة أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان ، فأمّا من قال : إنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة ، وأمّا من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول : قراءتها في الصلاة سنّة ، ما عدا مالكاً رحمه الله فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة .
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به ، فنقل جماعة عن أحمد : أنه لا يسُن الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، ومذهب الثوري ، ومالك ، وأبي حنيفة .
وذهب الشافعي : إلى أن الجهر بها مسنون ، وهو مرويّ عن معاوية ، وعطاء ، وطاووس .
الحكم الثالث : هل تجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على مذهبين :
أ - مذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) أن قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة ، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته .
ب - مذهب الثوري وأبي حنيفة : أن الصلاة تجزئ بدون فاتحة الكتاب مع الإساءة ولا تبطل صلاته ، بل الواجب مطلق القراءة وأقله ثلاث آيات قصار ، أو آية طويلة .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب قراءة الفاتحة بما يلي :
أولاً : حديث عُبادة بن الصامت وهو قوله عليه الصلاة والسلام : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
ثانياً : حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهيِ خِداج فهي خِداج ، فهي خداج غير تمام » .
ثالثاً : حديث أبي سعيد الخدري : « أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر » .
قالوا : فهذه الآثار كلّها تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، فإنّ قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » يدل على نفي الصحة ، وكذلك حديث أبي هريرة فهي خِداج قالها عليه الصلاة والسلام ثلاثاً يدل على النقص والفساد ، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة شرطاً لصحة الصلاة .
استدل الثوري وفقهاء الحنفية على صحة الصلاة بغير قراءة الفاتحة بأدلة من الكتاب والسنّة .
أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] قالوا : فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسّر من القرآن ، لأن الآية وردت في القراءة في الصلاة بدليل قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } إلى قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل ، وذلك عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ .
(1/16)

وأما السنّة : فما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أن رجلاً دخل المسجد فصلّى ، ثم جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السلام وقال : » ارجع فصلّ فإنك لم تصل « فصلّى ثم جاء فأمره بالرجوع ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال : والذي بعثك بالحق ما أُحْسنُ غيره ، فقال عليه الصلاة والسلام : » إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثمّ استقبل القبلة فكبّر ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تستوي قائماً ، ثمّ فاعل ذلك في صلاتك كلها « » .
قالوا : فحديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته يدل على التخيير ( اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ) ويقوّي ما ذهبنا إليه ، وما دلت عليه الآية الكريمة من جواز قراءة أي شيء من القرآن .
وأما حديث عبادة بن الصامت : فقد حملوه على نفي الكمال ، لا على نفي الحقيقة ، ومعناه عندهم ( لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ولذلك قالوا : تصح الصلاة مع الكراهية ، وقالوا هذا الحديث يشبه قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » .
وأما حديث أبي هريرة : ( فهي خداج ، فهي خداج . . . ) الخ فقالوا : فيه ما يدلّ لنا لأنّ ( الخداج ) الناقصة ، وهذا يدل على جوازها مع النقصان ، لأنها لو لم تكن جائزة لما أُطلق عليها اسم النقصان ، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها ، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي لم يثبت منه شيء .
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين : سردناها لك بإيجاز ، وأنت إذا أمعنتَ النظر ، رأيت أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً ، وأقوى قيلاً ، فإنّ مواظبته عليه الصلاة والسلام على قراءتها في الفريضة والنفل ، ومواظبة أصحابه الكرام عليها دليل على أنه لا تجزئ الصلاة بدونها ، وقد عضد ذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة ، والنبي عليه الصلاة والسلام مهمته التوضيح والبيان ، لما أجمل من معاني القرآن ، فيكفي حجّة لفريضتها ووجوبها قولُه وفعله عليه السلام .
وممّا يؤيد رأي الجمهور ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين ، ويُسمعنا الآية أحياناً ، وكان يطوّل في الركعة الأولى من الظهر ، ويقصر الثانية ، وكذلك في الصبح » .
وفي رواية : « ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب » .
قال الطبري : يقرأ بأم القرأن في كل ركعة ، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها .
قال القرطبي : والصحيح من هذه الأقوال ، قولُ الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر ، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعةٍ لكل أحدٍ على العموم لقوله عليه الصلاة والسلام :
(1/17)

« لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » وقد روي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وأُبِيّ بن كعب ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعبادة بن الصامت ، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » فهؤلاء الصحابة القُدرة ، وفيهم الأسوة ، كُلّهم يوحبون الفاتحة في كل ركعة .
قال الإمام الفخر : « إنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة ، فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى : { واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ الأعراف : 158 ] ويا لَلْعجب من أبي حنيفة فإنه تمسّك في وجوب ( مسح الناصية ) بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سُباطة قوم فبال وتوضأ ، ومسح على ناصيته وخفيه ، في ( أنه عليه السلام مسح على الناصية ) فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة!! وهاهنا نقل أهلُ العلم نقلاً متواتراً أنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ، ثمّ قال : إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها ، وهذا من العجائب! » .
الحكم الرابع : هل يقرأ المأموم خلف الإمام؟
اتفق العلماء على أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه يحمل عنه القراءة ، لإجماعهم على سقوط القراءة عنه بركوع الإمام ، وأمّا إذا أدركه قائماً فهل يقرأ خلفه أم تكفيه قراءة الإمام؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال :
أ - فذهب الشافعي وأحمد : إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام سواء كانت الصلاة سرّية أم جهرية .
ب - وذهب مالك إلى أن الصلاة إذا كانت سرّية قرأ خلف الإمام ، ولا يقرأ في الجهرية .
ج - وذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية .
استدل الشافعية والحنابلة بالحديث المتقدم وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
فإن اللفظ عام يشمل الإمام والمأموم ، سواء كانت الصلاة سرية جهرية ، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب لم تصحّ صلاته .
واستدل الإمام مالك : على قراءة الفاتحة إذا كانت الصلاة سرّية بالحديث المذكور ، ومنع من القراءة خلف الإمام إذا كانت الصلاة جهرية لقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] .
وقد نقل القرطبي : عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام ، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب ، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه .
وأمّا الإمام أبو حنيفة : فقد منع من القراءة خلف الإمام مطلقاً عملاً بالآية الكريمة { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا } [ الأعراف : 204 ] ولحديث « من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة » .
واستدل أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(1/18)

« إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبّر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا » .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
يقف الإنسان بين يدي هذه السورة الكريمة ( سورة الفاتحة ) وقفة العبد الخاشع ، المعترف بالعجز ، المقر بالتقصير ، فإن هذه السورة وحي منزل من عند الله ، وهي من كلام ربّ العالمين ، وكلام الله فوق أن يحيط به عقل قاصر من بني الإنسان ، أو يدرك أسراره العميقة بشر ، مهما أوتي من النبوغ والذكاء ، وسعة العلم والاطلاع .
وقُصارى ما يدركه الإنسان أن يحسّ من قرارة نفسه بروعة هذا القرآن الكريم ، وسمو معانيه ، وجمال ألفاظه ، وأن يشعر بالعجز الكامل عن أن يأتي بمثل آية من آياته ، فضلاً عن مثل الكتاب العزيز ، فإن هذه السورة الكريمة على قصرها ووجازتها قد حوت معاني القرآن العظيم ، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال ، فهي تتناول أصول الدين وفروعه ، تتناول العقيدة ، والعبادة ، والتشريع ، والاعتقاد بالجزاء والحساب ، والإيمان بصفات الله الحسنى ، وإفراده بالعبادة ، والاستعانة ، والدعاء ، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم ، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين ، وتجنب طريق المغضوب عليهم أو الضالّين إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراضٍ وأهداف .
قال العلامة القرطبي : « سميت الفاتحة ( القرآن العظيم ) لتضمنها جميع علومه ، وذلك لأنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله ، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها ، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلاّ بإعانته تعالى ، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم ، وكفاية أحوال الناكثين ، وعلى بيان عاقبة الجاحدين ، وهذه جملة المقاصد التي جاء بها القرآن العظيم » .
يقول الشهيد الشيخ حسن البنا رحمه الله في رسالته القيّمة « مقدمة في التفسير » ما نصه :
« لا شك أن من تدبّر الفاتحة الكريمة - وكلّ مؤمن مطالب بتدبرها في تلاوته عامة ، وفي صلاته خاصة - رأى من غزارة المعاني ، وجمالها ، وروعة التناسب ، وجلاله ، ما يأخذ بلبه ، ويضيء جوانب قلبه . فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله الموصوف بالرحمة ، التي تظهر آثار رحمته متجدّدة في كل شيء ، مستشعراً أنّ أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم هو هذه الرحمة التي وسعت كل شيء . فإذا استشعر هذا المعنى ، ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله ( الرحمن الرحيم ) وذكّره الحمد بعظيم نعمه ، وكريم فضله ، وعظيم آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً ، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له ، ثمّ تذكّر من جديد أنّ هذه النعم الجزيلة ، والتربية الجليلة ، ليست عن رغبة ولا رهبة ، ولكنّها عن تفضل ورحمة ، فنطق لسانه مرة ثانية بالرحمن الرحيم ، ولكن من كمال هذا الإله العظيم أن يقرن ( الرحمن ) ب ( العدل ) ويذكّر بالحساب بعد الفضل ، فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدينُ عباده ، ويحاسب خلقه يوم الدين
(1/19)

{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة ، والترهيب بالعدالة ، والحساب ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير ، والبحث عن وسائل النجاة ، وهو في هذا أشدّ ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل ، ويرشده إلى الصراط المستقيم ، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه ، فليلجأ إليه ، وليعتمد عليه ، وليخاطبه بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه ، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء ، والنكوص بعد الاهتداء ، وغير الضالين التائهين ، الذين يضلون عن الحق ، أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه آمين .
ولا جرم أن ( آمين ) براعة مقطع في غاية الجمال والحسن ، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب ، والتوجه إلى الله بالدعاء؟
فهل رأيت تناسقاً أدق ، أو ارتباطاً أوثق ، مما تراه بين معاني هذه الآيات الكريمات؟ وتذكّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي الذي أوردناه آنفاً « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل » الخ وأدم هذا التدبر والإنعام ، واجتهد أن تقرأ في الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل ، وخشوع وتذلّل ، وأن تقف على رؤوس الآيات ، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات ، من غير تكلف ولا تطريب ، واشتغال بالألفاظ عن المعاني ، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية ، أو الصلاة الجهرية ، فإنّ ذلك يعين على الفهم ، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع ، وما نفع القلبَ شيء أفضل من تلاوةٍ في تدبر وخشوع « .
(1/20)

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
2 - سورة البقرة
[ 1 ] موقف الشريعة من السحر
التحليل اللفظي
{ نَبَذَ } : النبذ : الطرح والإلقاء قال تعالى : { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } [ القصص : 40 ] ومنه النبيذ للشيء المسكر ، وسميَ نبيذاً ، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً فينبذه في وعاء أو سقاء ، ويتركه حتى يصير مسكراً ، والمنبوذُ : ولد الزنى ، لأنهُ يُنْبذُ على الطريق ، قال أبو الأسود .
وخبّرني من كنتُ أرسلتُ أنما ... أخذتَ كتابي معرضاً بشمالكا
نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه ... كنبذكَ نعلاً أخْلقتْ من نعالكا
وقال آخر :
أنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا ... نبذوا كتابك واستحلوا المحرما
{ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } : هذا مثل يضرب لمن استخفّ بالشيء وأعرض عنه جملة ، تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ، ودبر أذنه ، قال تعالى : { واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] وأنشد الفرّاء :
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ... بظهرٍ ولا يعيا عليك جوابها
{ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : تشبيه لهم بمن يجهل ، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يهتم ، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة .
والمعنى : نبذوا كتاب الله وتركوا العمل به ، على سبيل العناد والمابرة ، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزّل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .
{ واتبعوا } الضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود .
قال الزمخشري : أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين .
والمراد بالاتباع : التوغّلُ والإقبال على الشيء بالكليّة ، وقيل : الاقتداء .
{ تَتْلُواْ } : بمعنى تلت مضارع بمعنى الماضي ، فهو حكاية لحال ماضية ، قال الشاعر :
وانضحْ جوانبَ قبره بدمائها ... فلقد يكونُ أخا دمٍ وذبائحِ
أي فلقد كان .
وتتلو يعني : تُحدّث ، وتروي ، وتتكلم به من التلاوة بمعنى القراءة .
قال الطبري : ولقول القائل « هو يتلو كذا » في كلام العرب معنيان :
أحدهما : الاتباع كما تقول : « تلوت فلاناً » إذا مشيت خلقه وتبعت أثره .
والآخر : القراءة والدراسة كما تقول : فلان يتلو القرآن بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه ، كما قال ( حسان بن ثابت ) :
نبيّ يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
والمعنى : طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم ، واتّبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين وتحدّث وتروي بها في عهد سليمان .
{ الشياطين } : المتبادر من لفظ ( الشياطين ) أن المراد بهم مردة الجن ، وبه قال بعض المفسرين وقال بعضهم : المراد بهم شياطين الإنس ، والأرجح أن المراد بهم شياطين ( الإنس والجن ) كما قال تعالى : { شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] .
{ على مُلْكِ سليمان } : أي على عهد مكله وفي زمانه ، فهو على حذف مضاف .
قال المبرّد : « على » بمعنى « في » أي في عهد ملكه ، كما أنّ « في » بمعنى « على » كما في قوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي على جذوع النخل . ( سليمان ) اسم عبراني ، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية ، واستعمله الحطيئة ، اضطراراً فجعله بلفظ ( سلاّم ) حين قال :
(1/21)

فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء محكمة من نسج سلاّم
قال الألوسي : وسليمان اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة ، ونظيره ( هامان ) و ( ماهان ) و ( شامان ) وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون .
{ السحر } : في اللغة : كلّ ما لطف مأخذه ودقّ ، قال الأزهري : وأصل السّحر صرفُ الشيء عن حقيقته إلى غيره ، فكأنّ الساحر لمّا أرى الباطل في سورة الحقّ ، وخيّل الشيء على غير حقيقته ، قد سحر الشيء عن وجهه اي صرفه .
وقال الجوهري : والسّحر : الأُخْذةُ ، وكلّ ما لُطف مأخذه ، ودقّ فهو سحرٌ وسَحَره أيضاً بمعنى خدعه .
وقال القرطبي : السّحر أصلُه التمويهُ بالحيل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السّراب من بعيد فيخيّل إليه أنه ماء ، وهو مشتق من سحرتُ الصبي إذا خدعته ، قال لبيد :
فإنْ تسألينا فيمَ نحن فإنّنا ... عصافيرُ من هذا الأنام المسحّر
وقال امرؤ القيس :
أُرانا مُوضعين لأمر غيبٍ ... ونُسحَرُ بالطعام وبالشراب
عصافيرٌ وذبّانٌ ودودٌ ... وأجراً من مجلّحة الذئاب
وقال الألوسي : السّحر في الأصل مصدر سَحَر يسَحْر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدّق ويخفى ، وهو من المصادر الشاذة ، ويستعمل بما لطف وخفي سببه ، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق . وفي الحديث « إنّ من البيان لسحراً » .
{ فِتْنَةٌ } : الفتنةُ الاختبار والابتلاء ، ومنه قولهم : فتنتُ الذهب في النار ، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته .
قال الأزهري : جِماعُ معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان ، والاختبار ، قال تعالى : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] وقال تعالى { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ العنكبوت : 3 ] أي اختبرنا وابتلينا .
قال الجصّاص : الفتنةُ : ما يظهر به حال الشيء في الخير والشر ، تقول العرب : فتنتُ الذهب إذا عرضته على النار لتعرف سلامته أو غشّه ، والاختبار كذلك أيضاً لأن الحال تظهر فتصير كالمخبرة عن حالها .
{ فَلاَ تَكْفُرْ } : أي بتعلم السّحر واستعماله ، وفي الآية إشارة إلى أنّ تعلم السّحر كفرٌ .
قال الزمخشري : { فَلاَ تَكْفُرْ } أي فلا تتعلم السّحر معتقداً أنه حق فتكفر .
{ بِإِذْنِ الله } : أي بإرادته ومشيئته ، وفيه دليل على أن في السحر ضرراً مودعاً ، إذا شاء الله تعالى حال بينه وبين المسحور ، وإذا شاء خلاّه حتى يصيبه ما قدّره الله تعالى له ، وهذا مذهب السلف في الأسباب والمسببات .
{ لَمَنِ اشتراه } : قال الألوسي : أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ وعلى المضارع ، ودخولها على الماضي مع ( قد ) كثير ، كقوله تعالى : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] .
{ خلاق } : الخلاقُ في اللغة بمعنى النصيب قال تعالى : { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } [ آل عمران : 77 ] ويأتي بمعنى القدر قال الشاعر :
فما لكَ بيتٌ لدى الشامخات ... وما لك في غالب من خلاق
قال الزّجاج : هو النصيب الوافر من الخير ، وأكثر ما يستعمل في الخير ، ويكون للشر على قلّة .
(1/22)

{ شَرَوْاْ } : أي باعوا أنفسهم به ، يقال : شرى بمعنى اشترى ، وشرى بمعنى باع من الأضداد ، قال الشاعر :
وشربتُ بُرْداً ليتني ... من بعد بُرْدٍ كنتُ هامة
{ لَمَثُوبَةٌ } : المثوبة : الثواب والجزاء ، أي لثواب وجزاء عظيم من الله تعالى على إيمانهم وتقواهم .
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ ثناؤه أنّ أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه الذي أنزله على عبده ورسوله ( موسى ) عليه السلام وهو التوراة ، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، مع أنّ الرسول جاء مصدّقاً لما بين أيديهم من التوراة ، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد ، في الاستكبار والعناد ، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي ، والإفساد ، والعناد .
لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدّثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان ، وما كان ( سليمان ) عليه السلام ساحراً ، ولا كفر بتعلمه السحر ، ولكنّ الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب ، وعَلَّموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس .
وكما اتبّع رؤساء اليهود ( السحر ) و ( الشعوذة ) كذلك اتّبعوا ما أُنزل على الرجلين الصالحين ، أو الملكَيْن : ( هاروت ) و ( ماروت ) بمملكة بابل ، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض ، لتعليم السحر ، ابتلاءً من الله للناس ، وما يعلّمان السّحر من أجل السّحر ، وإنّما من أجل إبطاله ، ليُظْهرا للناس الفرق بين ( المعجزة ) و ( السّحر ) ، ولله أن يبتلي عباده بما شاء ، كما امتحن قوم طالوت بالنهر ، وقد كثر السحر في ذلك الزمان ، وأظهر السّحَرة أموراً غريبة وقع بسببها الشكّ في ( النبوّة ) ، فبعث الله تعالى المكلَين لتعليم أبواب السحر ، حتى يزيلا الشّبَه ، ويميطا الأذى عن الطريق . . ومع ذلك فقد كانا يحذّران الناس من تعلّم السحر واستخدامه في الأذى والضرر ، وكانا إذا علَّما أحداً قالا له : إنما هذا امتحان من الله وابتلاء فلا تكفر بسببه واتّق الله فلا تستعمله في الإضرار ، فمن تعلّمه ليتوقّى ضرره ويدفع أذاه عن الناس فقد نجا وثبت على الإيمان ، ومن تعلّمه معتقداً صحته ليُلحق الأذى بالناس فقد ضلّ وكفر ، فكان الناس فريقين : فريق تعلّمه عن نيّة صالحة ليدفع ضرره عن الناس ، وفريق تعلّمه عن نيّة خبيثة ليفرّق به بين الرجل وأهله ، وبين الصديق وصديقه ، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم ، لأنهم عرفوا أنّ من تجرّد لهذه الأمور المؤذية ، ما له في الآخرة من نصيب ولبئسما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فهم وإدراك .
ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله ، وخافوا عذابه ، لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل ممّا شغلوا به أنفسهم ، من هذه الأمور الضارّة التي لا تعود عليهم إلاّ بالويل والخسار والدمار .
(1/23)

سبب النزول
قال ابن الجوزي رحمه الله : في سبب نزول هذه الآية قولان :
أحدهما : أن اليهود كانوا لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من التوراة إلاّ أجابهم ، فسألوه عن السحر وخاصموه به فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية .
والثاني : أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة : ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ( ابن داود ) كان نبيّاً؟ والله ما كان إلا ساحراً فنزلت هذه الآية { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ . . . } ذكره ابن إسحاق .
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } .
قرأ الجمهور : ( ولكنّ الشياطينَ ) بتشديد نون ( لكنّ ) ونصب نون ( الشياطين ) وقرأ حمزة والكسائي : ( ولكن الشياطينُ ) بتخفيف النون من ( لكن ) ورفع نون ( الشياطين ) .
ثانياً : قوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين } .
قرأ الجمهور : ( المَلَكَيْن ) بفتح اللام والكاف مثنّى ( مَلَك ) وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ( الملِكَيْن ) بكسر اللام مثنىّ ( ملِك ) قال ابن الجوزي : وقراءة الجمهور أصح .
قال القرطبي : وحُكي عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ : { وما أُنْزل على الملِكَيْن } يعني به رجلين من بني آدم .
ثالثاً : قوله تعالى : { هاروت وماروت } قرأ الجمهور بفتح التاء قرأ الحسن والزهري برفعهما على تقدير ( هما هاروتُ وماروتُ ) .
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } الواو للعطف ، و { واتبعوا } معطوف على قوله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ } من عطف الجملة على الجملة ، والضمير في { واتبعوا } لليهود ، و { مَا } اسم موصول مفعول به و { تَتْلُواْ } صلة الموصول و { الشياطين } فاعل مرفوع وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبّع ، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول ، بخلاف نبذ كتاب الله فإنه مترتب على مجيء الرسول .
ثانياً - قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين . . . . } جملة { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } في محل نصب على الحال من الضمير في { كَفَرُواْ } أي كفروا معلميّن الناس السحر ، وقيل : هو بدل من { كَفَرُواْ } لأن تعليم السحر كفر في المعنى و { مَآ أُنْزِلَ } اسم الموصول { مَا } معطوف على { مَا تَتْلُواْ } فهو في موضع نصب ، والمعنى : اتبعوا ما تتلوه الشياطين ، واتبعوا ما أُنزل على الملكين ، وقيل : { مَآ أُنْزِلَ } ما : نافية أي لم ينزل على الملكين ، قال ابن الأنباري : وهذا الوجه ضعيف جداً ، لأنه خلاف الظاهر والمعنى ، فكان غيره أولى .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق } .
اللام في { لَمَنِ اشتراه } لام الابتداء ، و ( مَنْ ) بمعنى الذي في موضع رفع لأنه مبتدأ ، وخبره جملة { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق } و { مِنْ } في قوله : { مِنْ خلاق } زائدة لتأكيد النفي ، وتقديره : ما له في الآخرة خلاق .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : تضمنت هذه الآيات الكريمة ما كان عليه اليهود من الخبث وفساد النيّة ، والسعي للإضرار بعباد الله ، فالسّحر لم يُعرف إلاّ عند اليهود ، فتاريخه مشتهر بظهورهم ، فهم الذين نبذوا كتاب الله وسلكوا طريق السحر ، وعملوا على إفساد عقول الناس وعقائدهم بطريق السحر ، والشعوذة ، والتضليل ، وهذا يدل على أنّ اليهود أصل كل شرّ ، ومصدر كلّ فتنة وقد صوّر القرآن الكريم نفسيّة اليهود بهذا التصوير الدقيق
(1/24)

{ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } [ المائدة : 64 ] .
اللطيفة الثانية : قال أبو حيان : كما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمّن الوعيد في قوله تعالى : { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 98 ] وقوله : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون } [ البقرة : 99 ] وذكر نبذ العهود من اليهود ، ونبذ كتاب الله ، واتباع الشاطين ، وتعلم ما يضر ولا ينفع ، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى . فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد ، والترغيب والترهيب ، والإنذار والتبشير ، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء ، وإخبار بمغيّب يعد مغيّب ، متناسقةٌ تناسق اللآلئ في عقودها ، متضمنة اتضاح الدّراري في مطالع سعودها ، معلمة صدق من أتى بها ، وهو ما قرأ الكتب ولا دارس ، ولا رحل ، ولا عاشر الأحبار ولا مارس { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3-4 ] صلى الله وسلّم عليه ، وأوصل أزكى تحية إليه .
اللطيفة الثالثة : قَوله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } التعبيرُ بالنبذ وراء الظهور ، فيه زيادة تشنيع وتقبيح على اليهود ، حيث تركوا العمل بكتاب الله ، وأعرضوا عنه بالكلّية ، شأن المستخف بالشيء ، المستهزئ به ، وتمسكوا بأساطير من فنون السحر والشعوذة .
يقول سيّد قطب رحمه الله : « والذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، والمقصودُ طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به ، ولكنّ التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن ، إلى دائرة الحسن ، ويمثّل عملهم بحركةٍ مادية متخيّلة ، تصوّر هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً ، ينضح بالكنود والجحود ، ويتسّم بالغلظة والحماقة ، ويفيض بسوء الأدب والقحة ، ويدع الخيال يتملّى هذه الحركة العنيفة ، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور » .
اللطيفة الرابعة : وجه المقارنة بين ذكر { الشياطين } و { السحر } في الآية الكريمة ، هو أنّ السحر فيه استعانة بأرواح خبيثةٍ شرّيرة من الجن ، والشياطينُ تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك ، وقد كان بعض الناس يصدّقونهم فيما يزعمون ، ويلجأون إليهم عند الكرب كما قال تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] ولهذا اشتهر السّحر عن طريق الاتصال بهذه الأرواح الخبيثة .
أخرج ابن جرير والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
« إنّ الشياطين كانوا يسترقون السّمع من السّماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة ، كذب عليها ألف كذبة ، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين ، فأطلع الله على ذلك » سليمان بن داود « فأخذها وقذفها تحت الكرسي ، فلمّا مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحدٍ مثل كنزه الممنّع؟ قالوا : نعم فأخرجوه فإذا هو سحر ، فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر » .
(1/25)

اللطيفة الخامسة : عبّر القرآن الكريم عن ( السحر ) ب ( الكفر ) في قوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سليمان } وسياقُ اللفظ يدل على أن المراد منه السحر أي : وما سحر سليمان وإنما عبّر عنه بالكفر تقبيحاً وتشنيعاً ، كما قال تعالى فيمن ترك الحجّ مع القدرة عليه { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } [ آل عمران : 97 ] .
وفي هذا التعبير تنفير للناس من السحر ، ودلالة على أنه من الكبائر الموبقات ، بل هو قرين الكفر والإشراك بالله ، وقد دلّ عليه قوله تعالى : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } .
اللطيفة السادسة : روي أنّ رجلاً تكلّم بكلام بليغ عند ( عمر بن عبد العزيز ) فقال عمر : هذا والله السّحر الحلال . ورُوي « أنّ ( الزبرقان بن بدر ) و ( عَمْر بن الأهتم ) و ( قيس بن عاصم ) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعَمْرو : خبّرني عن الزبرقان؟ فقال : مُطاع في ناديه ، شديد العارضة ، مانعٌ لما وراء ظهره . . فقال الزبرقان : هو والله يعلمُ أني أفضلُ منه ، فقال عمرو : إنه زمر المروءة ، ضيّق العَطَن ، أحمقُ الأب ، لئيم الخال . . ثم قال : يا رسول الله ، صدقتُ فيهما ، أرضاني أحسن ما علمتُ ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت ، فقال عليه السلام : » إن من البيان لسحراً « » .
ورُوي أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنّ من البيان لسحراً » فإن قيل : كيف سمّى عليه السلام روحة البيان سحراً مع أنّ السحر مذموم عقلاً ونقلاً؟!
فالجواب : أنّ هذا على ( المجاز ) لا على ( الحقيقة ) فالخطيب يستميل القلوب بحسن بيانه وروعة أدائه ، وجمال تعبيره ، كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إليه بخفته ورشاقته وتمويهه على الحاضرين ، فمن هذا الوجه سمّي البيان سحراً .
اللطيفة السابعة : فإن قيل : كيف كان الملكان يعلّمان الناس السحر مع أنه حرام ، ومعتقده كافر؟!
فالجواب : أنهما ما كانا يعلمان الناس السّحر للعمل به ، وإنما للتخلُّص من ضرره ، والاحتراز منه ، لأن تعريف الشر للزجر عنه حسن وقد قيل :
عرفتُ الشرّ لا للشرّ ... لكن لتوقّيه
ومن لا يعرف الشرّ ... من الناس يقع فيه
وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّ فلاناً لا يعرف الشر ، قال : أجدر أن يقع فيه . والصحيح كما قال الألوسي : أن ذلك كان للابتلاء والتمييز بين ( المعجزة ) و ( السحر ) والله أعلم .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل للسّحر حقيقة وتأثير في الواقع؟
اختلف العلماء في أمر ( السحر ) هل له حقيقة أم هو شعوذة وتخييل؟
فذهب جمهور العلماء : من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير .
(1/26)

وذهب المعتزلة وبعض أهل السُنّة : إلى أنّ السحر ليس له حقيقة في الواقع وإنما هو خداع ، وتمويه ، وتضليل ، وأنه باب من أبواب الشعوذة ، وهو عندهم على ضروب .
ضروب السحر
أولاً : التخييل والخداع : وذلك كما يفعله بعض المشعوذين ، حيث يريك أنه ذبح عصفوراً ، ثم يريك العصفور بعد ذبحه قد طار ، وذلك لخفة حركته ، والمذبوحُ غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان ، قد خبأ أحدهما وهو المذبوح وأظهر الآخر . قالوا : وقد كان سحر سحرة فرعون من هذا النوع ، فقد كانت العصيّ مجوَّفة ، قد ملئت زئبقاً ، وكذلك الحبال كانت من أدم ( جلد ) محشوّة زئبقاً ، وقد حفروا تحت المواضع أسراباً وملؤها ناراً ، فلمّا طرحت عليها الحبال والعصيّ وحمى الزئبق تحركت ، لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته الحرارة أن يتمدّد ، فتخيّل الناس أنّ هذه الحبال والعصي تتحرك وتسير .
ثانياً : الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ وذلك كما يفعله بعض العَرّافين والكُهان حيث يوكلون أناساً بالاطلاع على أسرار الناس ، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها ، ويزعمون أنها من حديث الجنّ والشياطين لهم ، وأنهم يتصلون بهم ويطيعونهم بواسطة الرّقي ، والعزائم ، وأن الشياطين تخبرهم بالمغيبات فيصدقهم الناس ، وما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أعدّوهم لذلك .
قال الجصاص : كانت أكثر مخاريق الحلاّج بالمواطأة ، فكان يتفق مع جماعة فيضعون له خبزاً ولحماً وفاكهة في مواضع يعيّنها لهم ، ثمّ يمشي مع أصحابه في البرية ، ثم يأمر بحفر هذه المواضع ، فيخرج ما خبئ من الخبز واللحم والفاكهة ، فيعدّونها من الكرامات .
ثالثاً : وضربٌ آخر من السّحر عن طريق النميمة ، والوشاية ، والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة ، وذلك عام شائع في كثير من الناس . . وقد حُكي أنّ امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين ، فجاءت إلى الزوجة فقالت لها : إنّ زوجك معرضٌ عنك ، وهو يريد أن يتزوج عليك ، وسأسحره لك حتى لا يرغب عنك ، ولا يريد سواك ، ولكن لا بد أن تأخذي من شعر حلقه بالموسى ثلاث شعرات إذا نام وتعطينيها حتّى يتم سحره ، فاغترت المرأة بقولها وصدقتها ، ثمّ ذهبت إلى الرجل وقالت له : إن امرأتك قد أحبّت رجلاً وقد عزمت على أن تذبحك بالموسى عند النوم لتتخلص منك ، وقد أشفقت عليك ولزمني نصحك ، فتيقّظ لها هذه الليلة وتظاهر بالنوم فستعرف صدق كلامي ، فلما جاء الليل تناوم الرجل في بيته فجاءت زوجته بالموسى لتحلق بعض شعرات من حلقه ، ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت بالموسى إلى حلقه ، فلم يشكّ في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها ، فبلغ الخبر إلى أهلها فجاءوا فقتلوه ، وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة .
(1/27)

رابعاً : وضرب آخر من السحر وهو الاحتيال وذلك بإطعام الإنسان بعض الأدوية المؤثرة في العقل ، أو إعطائه بعض الأغذية التي لها تأثير على الفكر والذكاء ، كإطعامه ( دماغ الحمار ) الذي إذا أطعمه إنسان تبلّد عقله ، وقلّت فطنته مع أدوية أخرى معروفة في كتب الطب ، فإذا أكله الإنسان تصرّف تصرفاً غير سليم فيقول الناس : به مسّ أو أنه مسحور .
فأنت ترى أنهم يُرجعون السحر إمّا إلى تمويه وتخييل ، وإمّا إلى مواطأة ، وإمّا إلى سعي ونميمة ، وإمّا إلى احتيال ، ولا يرون الساحر يقدر على شيء ممّا يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام ، ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن اليسير .
قال أبو بكر الجصاص : وحكمةٌ كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل ، لا حقيقة لما يدّعون لها أنّ الساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضرر ، وأمكنهما الطيران ، والعلم بالغيوب ، وأخبار البلدان النائية ، والخبيثات والسّرَق ، والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا ، لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز ، والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا ينالهم مكروه ، ولا ستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس .
فإذا لم يكن كذلك ، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالاً ، وأكثرهم طمعاً واحتيالاً ، وتوصلاً لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقراً وإملاقاً علمتَ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك « .
أدلة المعزلة :
استدل المعتزلة على أن السحر ليس له حقيقة بعدة أدلة نوجزها :
أ - قوله تعالى : { سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم } [ الأعراف : 116 ] .
ب - قوله تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] .
ج - قوله تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } [ طه : 69 ] .
فالآية الأولى : تدل على أن السحر إنما كان للأعين فحسب ، والثانية : تؤكد أنَّ هذا السحر كان تخييلاً لا حقيقة ، والثالثة : تثبت أن الساحر لا يمكن أن يكون على حق لنفي الفلاح عنه .
د - وقالوا : لو قدر الساحر أن يمشي على الماء ، أو يطير في الهواء ، أو يقلب التراب إلى ذهب على الحقيقة ، لبطل التصديق بمعجزات الأنبياء ، والتبس الحق بالباطل ، فلم يعد يعرف ( النبي ) من ( الساحر ) لأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء ، وفعل السحرة ، وأنه جميعه من نوع واحد .
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور من العلماء على أنّ السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ - قوله تعالى : { سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 166 ] .
ب - قوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } [ البقرة : 102 ] .
ج - قوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 102 ] .
د - قوله تعالى : { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } [ الفلق : 4 ] .
فالآية الأولى دلّت على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله تعالى : { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 166 ] والآية الثانية أثبتت أن السحر كان حقيقياً حيث أمكنهم بواسطته أن يفرّقوا بين الرجل وزوجه ، وأن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين فدلت على أثره وحقيقته ، والآية الثالثة أثبتت الضرر للسحر ، ولكنّه متعلق بمشيئة الله ، والآية الرابعة تدل على عظيم أثر السحر حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شرّ السّحرة الذين ينفثون في العقد .
(1/28)

ه - واستدلوا بما روي « أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى لذلك أياماً ، فأتاه جبريل فقال : إنّ رجلاً من اليهود سحرك ، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، فأرسل صلى الله عليه وسلم فاستخرجها فحلّها ، فقام كأنّما نَشِطَ من عقال » .
الترجيح : ومن استعراض الأدلة نرى أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً فإن السحر له حقيقة وله تأثير على النفس ، فإن إلقاء البغضاء بين الزوجين ، والتفريق بين المرء وأهله الذي أثبته القرآن الكريم ليس إلا أثراً من آثار السحر ، ولو لم يكن للسحر تأثير لما أمر القرآن بالتعوذ من شرّ النفاثات في العقد ، ولكنْ كثيراً ما يكون هذا السحر بالاستعانة بأرواح شيطانية فنحن نقر بأنّ له أثراً وضرراً ولكنّ أثره وضرره لا يصل إلى الشخص إلاّ بإذن الله ، فهو سبب من الأسباب الظاهرة ، التي تتوقف على مشيئة مسبّب الأسباب ، ربّ العالمين جل وعلا .
وأما استدلالهم : بأنه يلتبس الأمر بين ( المعجزة ) و ( السحر ) إذا أثبتنا للسّحر حقيقة فنقول : إنّ الفرق بينهما واضح فإنّ معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها ، وظاهرُها كباطنها ، وكّلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها ، وأما السّحر فظاهره غير باطنه ، وصورته غير حقيقته ، يعرف ذلك بالتأمل والبحث ، ولهذا أثبت القرآن الكريم للسحرة أنهم استرهبوا الناس وجاءوا بسحرٍ عظيم ، مع إثباته أَنّ ما جاءوا به إنما كان عن طريق التمويه والتخييل .
قال العلامة القرطبي : « لا ينكر أحدٌ أن يظهر على يد الساحر خرق العادات ، بما ليس في مقدور البشر ، من مرضٍ ، وتفريق ، وزوال عقل ، وتعويج عضو ، إلى غير ذلك ممّا قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر .
قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدقّ جسم الساحر حتى يلج في الكُوّات ، والخوخات ، والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء ، والمشي على الماء ، وركوب كلب وغير ذلك ، ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك ، ولا علةً لوقوعه ، ولا سبباً مولوداً ، ولا يكون الساحر مستقلاً به ، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ، ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والرّيّ عند شرب الماء .
ثم قال : قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده من إنزال الجراد ، والقمل ، والضفادع وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام ، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر .
(1/29)

وقال أبو حيان : واختلف في حقيقة السحر على أقوال :
الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها بما يشبه المعجزات والكرامات كالطيران ، وقطع المسافات في ليلة .
الثاني : أنه خدع وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها وهو قول المعتزلة .
الثالث : أنه أمرٌ يأخذ بالعين على جهة الحيلة ، كما كان فعل سحرة فرعون حيث كانت حبالهم وعصيّهم مملوءة زئبقاً ، فجّروا تحتها ناراً فحميت الحبال والعصي فتحرّكت وسعت .
الرابع : أنه نوع من خدمة الجن والاستعانة بهم ، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف فلطف ودق وخفي .
الخامس : أنه مركب من أجسام تُجمع وتحرق ، ويتلى عليها أسماء وعزائم ، ثم تستعمل في أمور السحر .
السادس : أن أصله طلسمات تبنى على تأثير خصائص الكواكب ، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسُر .
السابع : أنه مركّب من كلمات ممزوجة بكفر ، وقد ضمّ إليها أنواع من الشعبذة ، والنازنجيات ، والعزائم ، وما يجري مجرى ذلك .
ثم قال : وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء ، ولا يترتب عليه شيء ، ولا يصح منه شيء البتة ، وكذلك العزائم وضرب المندل ، والناس يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها .
الحكم الثاني : هل يباح تعلّم السحر وتعليمه؟
ذهب بعض العلماء : إلى أن تعلُّم السحر مباح ، بدليل تعليم الملائكة السحر للناس كما حكاه القرآن الكريم عنهم ، وإلى هذا الرأي ذهب ( الفخر الرازي ) من علماء أهل السنة .
وذهب الجمهور : إلى حرمة تعلم السحر ، أو تعليمه ، لأنّ القرآن الكريم قد ذكره في معرض الذمّ ، وبيّن أنه كفر فكيف يكون حلالاً؟
كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام عدّه من الكبائر الموبقات كما في الحديث الصحيح وهو قوله صلوات الله عليه :
« اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا وما هنّ يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » .
قال الألوسي : « وقيل إنّ تعلمه مباح ، وإليه مال الإمام الرازي قائلاً : اتفق المحقّقون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور ، لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ولو لم يُعْرف السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، فكيف يكون تعلمه حراماً وقبيحاً؟
ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به ، فيفتي به في وجوب القصاص » . انتهى .
ثم قال الألوسي : « والحق عندي الحرمة تبعاً للجمهور ، إلاّ لداعٍ شرعي ، وفيما قاله الإمام الرازي رحمه الله نظر :
أمّا أولاً : فلأنا لا ندّعي أنه قبيح لذاته ، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه ، فتحريمه من باب ( سد الذرائع ) وكم من أمرٍ حَرُم لذلك .
وأمّا ثانياً : فلأنّ توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوعٌ ، ألا ترى أن أكثر العلماء - أو كلّهم - عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر ، ولو كان تعلمه واجباً لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول .
(1/30)

وأما ثالثاً : فلأن ما نُقل عن بعضهم غير صحيح ، لأنّ إفتاء المفتي بوجوب القَوَد أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر ، لأن صورة إفتائه - على ما ذكره العلامة ابن حجر - إنْ شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالباً قُتل الساحر ، وإلاّ لم يُقتل .
وقال أبو حيان : وأما حكم السحر ، فما كان منه يُعظّم به غير الله من الكواكب ، والشياطين ، وإضافة ما يُحدثه الله إليها فهو كفر إجماعاً ، لا يحلّ تعلمه ولا العمل به ، وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء ، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء .
وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ، ولا العمل به ، وما كان من نوع التخييل ، والدّجل ، والشعبذة فلا ينبغي تعلمه لأنه من باب الباطل ، وإن قصد به اللهو واللعب وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره .
الحكم الثالث : هل يُقتل الساحر؟
قال أبو بكر الجصاص : اتفق السلف على وجوب قتل الساحر ، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله عليه الصلاة والسلام : « من أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدّقه بما يقول ، فقد كفر بما أُنزل على محمد » .
واختلف فقهاء الأمصار في حكمه :
فروي عن أبي حنيفة أنه قال : الساحرُ يُقتل إذا عُلم أنه ساحر ولا يستتاب ، ولا يقبل قوله إني أترك السحر منه ، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وكذلك العبد المسلم ، والحر الذميّ من أقر منهم أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وهذا كله قول أبي حنيفة .
قال ابن شجاع : فحَكَمَ في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة ، وقال - نقلاً عن أبي حنيفة - إنّ الساحر قد جمع مع كفره السعيَ في الأرض بالفساد ، والساعي بالفساد إذا قتَلَ قُتل .
وروي عن مالك في المسلم إذا تولّى عمل السحر قتل ولا يستتاب ، لأنّ المسلم إذا ارتد باطناً لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام ، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك إلاّ أن يضر المسلمين فيقتل .
وقال الشافعي : لا يكفر بسحره ، فإن قتَل بسحره وقال : سحري يقتل مثله ، وتعمدت ذلك قتل قوداً ، وإن قال : قد يقتل ، وقد يخطئ لم يُقتل وفيه الدية .
وقال الإمام أحمد : يكفر بسحره قتل به أو لم يقتل ، وهل تقبل توبته؟ على روايتين ، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يُقتل إلا أن يضر بالمسلمين .
والخلاصة : فإنّ أبا حنيفة يذهب إلى كفر الساحر ، ويبيح قتله ولا يستتاب عنده ، والساحر الكتابي حكمه كالساحر المسلم . والشافعي يقول : بعدم كفره ولا يقتل عنده إلا إذا تعمّد القتل .
(1/31)

ومالك يرى قتل الساحر المسلم لا ساحر أهل الكتاب ويحكم بكفر الساحر ولكلٍ وجهه هو مولّيها . .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - التوراة كتاب الله الذي أنزله على موسى عليه السلام والقرآن مصدّق للتوراة .
2 - نبذ اليهود ( التوراة ) ولم يعملوا بما فيها كما نبذ أخلافهم القرآن الكريم .
3 - سليمان عليه السلام كان نبياً ملكاً . ولم يكن ساحراً محترفاً للسحر .
4 - الشياطين زينوا للناس السحر ، وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب .
5 - السحر له حقيقة وتأثير على النفس ، حتى يستطيع الشخص بواسطته أن يفرق بين الرجل وأهله .
6 - الله جل ثناؤه يختبر عباده بما شاء من الأمور ابتلاءً وتمحيصاً .
7 - من تبدل السحر بكتاب الله فليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله .
8 - مدار الثواب والجزاء في الآخرة هو الإيمان بالله تعالى وإخلاص العمل له .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
لقد حرص الإسلام في كل تشريعاته على سلامة العقيدة في قلب المسلم . ليكون دائماً وأبداً متصلاً بالله ، معتمداً عليه ، مقراً له بالربوبية ، مستعيناً به على شدائد هذه الحياة ، لا يتوجه لغيره في دعاء ، ولا يقر لسواه بأي تأثير ، أو تحكم في قانون من قوانين الطبيعة التي خلقها الله تعالى ، وسيَّرها بعلمه ، وقدرته ، وإرادته .
فالنجوم ، والكواكب مسخرات بأمره - كغيرها من خلق الله - تسير وفق الخط المرسوم لها من الأزل ، لا تؤثر حركتها على الإنسان الذي خلقه الله تعالى على هذه الأرض وقدّر له أرزاقه ، وأعماره ، فلا ينتهي عمر إنسان ما بظهور كوكب ، أو اختفائه ، ولا يزيد رزق امرئ ، ولا ينقص عما قدره الله تعالى له ، فكل شأن من شؤون الحياة مدبر بأمر الله .
فإن زعم إنسان أنه يعلم الغيب باتصاله بالكواكب ، وتعظيمه لها . أو اتصاله بالجن والشياطين ، ويستطيع بذلك أن يؤثر في قوانين هذه الحياة ويحكم في مسيرتها الطبيعية بما يخرجها عمّا رسم لها ، يكون بذلك قد خالف شرعة الله التي أوضحها في كتابه ، وتجاوز الحدود التي وضعت له ، وخرج عن قانون الحنيفية السمحة ، فلا جرم أن يحكم عليه بالكفر لتعظيمه غير الله ، واستعانته بغير الخالق وإثباته التأثير في خلق الله لغير البارئ - والأذى بالناس ، وقد يصل بذلك إلى التفريق بين المرء وزوجه ، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله تعالى .
وإذا كان السحر كفراً ، وخروجاً عن شرعة الإسلام ، فلا يمكن أن يوصف أحد من رسل الله تعالى بأنه ساحر ، أو أنه كان يحكم بالسحر ، ويأتي بالخوارق والمعجزات بهذا الأمر ، ولهذا جاء القرآن كتاب الله المبين منزهاً سليمان بن داود عليه السلام عن أن يكون ساحراً ، أو حاكماً بالسحر ، أو آمراً به ، فما زعمته بنو إسرائيل عن النبي الكريم - سليمان عليه السلام - زعم كاذب ، وقول باطل ، يدل على جهلهم ، بل على ضلالهم عن سواء السبيل ، وبعدهم عن الصراط المستقيم ، فهم لم يعرفوا الله حق معرفته ، ولم يعلموا ما يجب في حق الرسل - عليهم السلام - وما يستحيل ، فالرسل الكرام منزهون عن الاستعانة بالشياطين ، وإنما كان الجن مسخرين لسليمان عليه السلام بأمر الله تعالى لا بالسحر .
هذا هو شرع الله المتين ، تنزيهٌ لله عن أن يشركه أحد من خلقه في التأثير ، وتنزيهٌ لرسله الكرام عما يبعدهم عن سواء السبيل ، وبيانٌ للمسلم عما يجب أن يعتقده .
(1/32)

مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
[ 2 ] النسخ في القرآن
التحليل اللفظي
{ نَنسَخْ } : النسخُ يأتي بمعنى ( الإزالة ) تقول العرب : نسخت الشمسُ الظلّ أي أزالته ، ومنه قوله تعالى : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } [ الحج : 52 ] أي يزيل ما يلقيه الشيطان .
ويأتي بمعنى ( النقل ) من موضع ، ومنه قولهم : نسختُ الكتاب أي نقلت ما فيه من مكان إلى مكان أي نقلته إلى كتاب آخر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] .
ويأتي بمعنى ( التبديل ) تقول : نسخَ القاضي الحكم أي بدّله وغيّره ، ونسخ الشارع السورة أو الآية أي بدّلها بآية أخرى ، وإليه يشير قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ]
ويأتي بمعنى ( التحويل ) كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد ، هذا من حيث اللغة .
وأما في الشرع : فهو انتهاء الحكم المستنبط من الآية وتبديله بحكم آخر ، وقد عرّفه الفقهاء والأصوليون بتعريفات كثيرة نختار منها أجمعها وأخصرها ، وهو ما اختاره ابن الحاجب حيث قال رحمه الله .
« النسخ : هو رفع الحكم الشرعي ، بدليل شرعيّ متأخر » .
{ نُنسِهَا } : نُنسها من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب ، فالنسيان بمعنى الذهاب من الذاكرة وهو مروي عن قتادة .
وقيل : من النسيان بمعنى الترك على حدّ قوله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] أي تركوا أمره فتركهم في العذاب . ومنه قوله تعالى : { قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 126 ] وهو مروي عن ابن عباس .
قال ابن عباس : أي نتركها فلا نبدّلها ولا ننسخها .
وحكى الأزهري : نُنْسها : أي نأمرُ بتركها ، يقال : أنسيتُه الشيء أي أمرتُ بتركه ، ونسيتُه تركته ، قال الشاعر :
إنّ عليّ عُقْبَة أقضيها ... لستُ بناسِيْها ولا مُنْسِيها
وأما قراءة ( نَنْسَأها ) بالهمز ، فهو من النسأ بمعنى التأخير ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } [ التوبة : 37 ] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة .
وقال أهل اللغة : أنسأ الله أجله ، ونسأ في أجله ، أي أخرّ وزاد .
قال الألوسي : « وقرئ ( ننسأها ) وأصلها من نسأ بمعنى أخّر ، والمعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها ، أو نُبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها ، وهو معنى ( نُنْسها ) فتتحّد القراءتان » .
{ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } : أي بأفضل منها ، ومعنى فضلها : سهولتها وخفتها .
والمعنى : نأت بشيء هو خير للعباد منها ، أو أنفع لهم في العاجل والآجل .
قال القرطبي : لفظة « خير » هنا صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كانت مستوية .
{ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } : الوليّ معناه القريب والصديق ، مأخوذ من قولهم : وليتُ أمر فلان أي قمتُ به ، ومنه وليّ العهد : أي القيّم بما عهد إليه من أمر المسلمين .
والنصيرُ : المعين مأخوذ من قولهم : نصره إذا أعانه .
(1/33)

قال الإمام الفخر : وأمّا الولي والنصير فكلاهما ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) على وجه المبالغة .
والمعنى : ليس لكم ناصر يمنعكم من العذاب .
{ أَمْ تُرِيدُونَ } : « أم » تأتي : متصلة ، ومنقطعة ، فالمتصلة هي التي تقدمها همزة استفهام كقوله تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] وأما المنقطعة فهي بمعنى ( بل ) كقول العرب ( إنها الإبل أم شاء ) كأنه قال : بل هي شاء ، ومنه قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ السجدة : 3 ] أي بل يقولون .
ومثله قول الأخطل :
كذبتكَ عينكَ أم رأيت بواسطٍ ... غلسَ الظَّلام من الربَابِ خيَالاً
قال القرطبي : « هذه ( أم ) المنقطعة التي بمعنى بل ، أي بل أتريدون ومعنى الكلام التوبيخ » .
{ يَتَبَدَّلِ الكفر } : يقال : بدّل ، تبدّل ، واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر ، والمراد اختيار الكفر بدل الإيمان كما قال تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } [ البقرة : 175 ] .
{ سَوَآءَ السبيل } : السواءُ من كل شيء : الوسطُ ، ومنه قوله تعالى : { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] أي وسط الجحيم .
والسبيلُ في اللغة : الطريقُ ، والمراد به طريق الاستقامة .
ومعنى الآية : من يختر الكفر والجحود بالله ويفضله على الإيمان ، فقد حاد عن الحق ، وعدل عن طريق الاستقامة ، ووقع في مهاوي الردي .
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بعد أن بيّن سبحانه وتعالى حقيقة الوحي ، ورق على المكذّبين به والكارهين له جملةً وتفصيلاً ، ذكر هنا سرَّ النسخ ، وأبطل مقال الطاعنين فيه ، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يكون فيه من المصلحة للعباد ، ثمّ ينهى عنه لما يرى فيه من الخير لهم ، فهو أعلم بمصالح عباده ، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبّدهم بها ، وشرعها لهم ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال ، والأزمنة والأشخاص ، فينبغي تسليم الأمر لله ، وعدم الاعتراض عليه ، لأنه هو الحكيم العليم .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } : أي ما نبدّل من حكم آية فنغيّره ، أو نترك تبديله فنقره بحاله ، نأت بخير لكم منها - أيها المؤمنون - في العاجل أو الآجل إمّا برفع مشقة عنكم ، أو بزيادة الأجر لكم والثواب ، أو بمثلها في الفائدة للعباد ، ألم تعلموا أيها الناس أن الله عليم ، حكيم ، قدير ، لا يصدر منه إلا كل خير وإحسان ، وأنه - جل وعلا - شرع هذه الملة الحنيفية السمحة ، ليرفع عن عباده الأغلال والآصار؟!
فلا تظنّوا أنّ تبديله للأحكام لعجزٍ في القدرة ، أو جهل في المصلحة ، وإنما تغييرها يرجع إلى منفعة العباد ، فهو المالك المتصرف في شؤون الخلق ، يحكم بما شاء ، ويأمر بما شاء ، ويبدّل وينسخ الأحكام حسب ما يريد ، وما لكم أيها الناس سوى وليّ يرعى شؤونكم ، أو ناصر ينصركم ، فلا تثقوا بغيره ، ولا تعتمدوا إلا عليه ، فهو نعم الناصر والمعين .
أتريدون - أيها المؤمنون - أن تسألوا رسولكم ، نظير ما سأل قوم موسى من قبل؟! فتضلّوا كما ضلّوا ، ويكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا نبيّهم تعنتاً واستكباراً فقالوا :
(1/34)

{ أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] وطلبوا منه ما لا يسوغ طلبه حيث قالوا : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] فهل يليق بكم أن تتعنتوا مع نبيكم ، وتقترحوا عليه ما تشتهون ، فتصبحوا كاليهود الضالين؟!
ومن يستبدل الكفر بالإيمان ، والضلالة بالهدى ، فقد حاد عن الجادة ، وعدل عن طريق الاستقامة ، وتردّى في مهاوي الهلاك ، وخسر نفسه حيث عرّضها لعذاب الله الأليم .
سبب النزول
أ - روي أن اليهود قالوا : ألا تعجبون لأمر محمداً؟ يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه ، يناقض بعضه بعضاً فنزلت { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا . . . } الآية .
ب - روي الفخر الرازي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
« إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقالوا يا محمد : والله لا نؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً من الله أنك رسوله فأنزل الله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ . . . } [ البقرة : 108 ] .
ج - وروي عن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقال : نعم ، وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم ، فأبوا ورجعوا فأنزل الله { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ . . . } .
وجوه القراءات
1- قرأ الجمهور { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } بفتح النون من نسخ الثلاثي ، وقرأ ابن عامر ( نُنْسخ ) بضم النون وكسر السين من أنسخ الرباعي .
قال الطبرسي : » لا يخلو من أن يكون ( أَفْعل ) لغة في ( فَعَل ) نحو بدأ وأبدأ ، وحلّ من إحرامه وأحلّ ، أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته ، والوجه الصحيح هو الأول وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ ، وقول من فتح النون ( نَنْسخ ) أبينُ وأوضح .
2 - قرأ الجمهور ( نُنْسِها ) بضم النون الأولى وكسر السين من النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( نَنْسأها ) بفتح النون والسين وإثبات الهمزة من النسأ وهو التأخير من قولهم : نسأتُ الإبل عن الحوض إذا أخرتها ، ومنه قولهم : أنسأ الله أجلك .
وجوه الأعراب
1 - قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } .
قال ابن قتيبة : أراد أو ( نُنْسكها ) من النسيان . ( ما ) شرطية جازمة و ( ننسخ ) مجزوم لأنه فعل الشرط ، و ( مِنْ ) صلة تأدباً ، و ( آية ) مفعول ل ( ننسخ ) والمعنى : ما ننسخ آية قال ابن مالك :
(1/35)

وزيدَ في نفي وشبهِهِ فجَرّ ... نكرةً كما لباغٍ من مفر
و ( نُنسها ) معطوف على ( ننسخ ) والمعطوف على المجزوم مجزوم ، و ( نأت ) جواب الشرط حذف منه حرف العلة ، و ( بخيرٍ ) جار مجرور متعلق بنأت .
قال العكبري : ومن قرأ بضم النون ( نُنْسها ) حمله على معنى نأمرك بتركها وفيه مفعول محذوف والتقدير : نُنْسكها .
2 - قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] والخطابُ للنبي عليه الصلاة والسلام ، وقوله تعالى : { أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سادّ مسدّ مفعولي ( تعلم ) عند الجمهور ، ومحل المفعول الأول عند الأخفش ، والمفعول الثاني محذوف .
3 - قوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } أم منقطعة للإضراب ومعناها ( بل ) والتقدير : بل أتريدون ، { كَمَا سُئِلَ } الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي سؤالاً كسؤال ، و ( ما ) مصدرية .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكر الله تعالى النسخ في القرآن ، وبيّن حكمته ، وهو الإتيان بما هو خير للعباد ، والخيرية تحتمل وجهين :
الأول : ما هو أخف على البشر من الأحكام .
الثاني : ما هو أصلح للناس من أمور الدنيا والدين .
قال القرطبي : والثاني أولى لأنه سبحانه يصرّف المكلّف على مصالحه ، لا على ما هو أخف على طباعه ، فقد ينسخ الحكم إلى ما هو أشد وأثقل ، كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وذلك لخير العباد ، لأنه يكون أكثر ثواباً ، وأعظم جزاءً ، فتبيّن أنّ المراد بالخيرية ما هو أصلح للعبد .
اللطيفة الثانية : أنكر بعض العلماء أن تحمل الآية ( أو نُنْسها ) على النسيان ضد الذكر ، لأنّ لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تكفّل الله جلت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ، فهذه الآية تعارض التفسير السابق الذي ذهب إليه المفسّرون .
والجواب كما قال ابن عطية : أن هذا النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله أن ينساه جائز شرعاً وعقلاً ، وأمّا النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده حتى يحفظه بعض الصحابة ، ومن هذا ما روي « أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة ، فلما فرغ منها قال : أفي القوم أُبيّ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فلِمَ لم تذكرني؟ قال : خشيت أن تكون قد رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترفع ولكني نسيتها » .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } المراد بالخيرية هنا الأفضلية يعني في ( السهولة والخفة ) وليس المراد الأفضلية في ( التلاوة والنظم ) لأن كلام الله تعالى لا يتفاضل بعضه عن بعض ، إذ كلّه معجز وهو كلام ربّ العالمين .
قال القرطبي : « لفظة ( خير ) هنا صفة تفضيل ، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف ، وفي آجل إن كانت أثقل ، وبمثلها إن كان مستوية ، وليس المراد ب ( أخير ) التفضيل ، لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله :
(1/36)

{ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [ النمل : 89 ] أي فله منها خير أي نفع وأجر « .
وقال أبو بكر الجصاص : » ( بخيرٍ منها ) في التسهيل والتيسير كما روي عن ابن عباس وقتادة ، ولم يقل أحد من العلماء خير منها في التلاوة ، إذ غير جائز أن يقال : إنّ بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم ، إذ جميعه معجز كلام الله « .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؟ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته بدليل قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أو المراد هو وأمته وإنمّا أفرد عليه السلام لكونه إمامهم ، وقدوتهم ، كقوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] فتخاطب الأمة في شخص نبيّها الكريم باعتباره الإمام والقائد . ووضعُ الاسم الجليل موضع الضمير ( أنّ الله ) و ( من دون الله ) لتربية الروعة والمهابة في نفوس المؤمنين ، والإشعار بأن شمول القدرة من مظاهر الألوهية والعظمة الربانية ، وكذا الحال في قوله جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } .
قال العلامة أبو السعود : والمعنى : ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر ، والاستيلاء الباهر ، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً ، وأمراً ونهياً ، حسبما تقتضيه مشيئته ، لا معارض لأمره ، ولا معقّب لحكمه .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } معنى { دُونِ الله } أي سوى الله كما قال أمية بن أبي الصلت :
يا نفسُ مالكِ دونَ اللهِ من واق ... وما على حدثان الدهر من باق
قال في » الفتوحات الإلهية « : » وقوله : { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أتى بصيغة فعيل في { وَلِيٍّ } و { نَصِيرٍ } لأنها أبلغ من فاعل والفرقُ بين الولي والنصير ، أن الوليّ قد يضعف عن النّصرة ، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور ، فبينهما عموم وخصوص من وجه « .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } السّواء : هو الوسط من كل شيء ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الطريق المستوي يعني المعتدل ، ومعنى ( ضل ) أي أخطأ ، وفي هذا التعبير نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل ، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل النسخ جائز في الشرائع السماوية؟
قال الإمام الفخر : النسخ عندنا جائز عقلاً ، واقع سمعاً ، خلافاً لليهود ، فإنّ منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوّزه عقلاً ، لكنْ منع منه سمعاً ، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ .
(1/37)

واحتج الجمهور : من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ، أنّ الدلائل دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّتُه لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنسخ .
وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة ، وفي نفس شريعة اليهود ، فإنه جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك باتفاق .
قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » : ( زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقة ، أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين ، كالسبت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب ، قال لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء ، وشريعته باقية البتة إلى أن تقوم الساعة ، وقد بعد هذا القائل من التوفيق بإظهار هذه المقالة ، إذ لم يسبقه إليها أحد ، بل قد عقلت الأمة سلفُها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ، ونقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به ، ولا يجيزون فيه التأويل ، وقد ارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة ، مع تعسف المعاني واستكراهها ، وأكثر ظني فيه أنه إنما أُتي به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك ، واستعمال رأيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ، ونقلته الأمة . . ) .
دليل أبي مسلم :
أ - احتجّ أبو مسلم بأنّ الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] فلو جاز النسخ لكان قد أتاه الباطل .
ب - كما تأول الآية الكريمة { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } على أن المراد بها نسخ الشرائع التي في الكتب القديمة من التوارة والإنجيل ، أو المراد بالنسخ النقلُ من اللوح المحفوظ وتحويله إلى سائر الكتب .
ج - وقال : إن الآية السابقة لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خيرٍ منه .
والجوال عن الأول : أن المراد أن هذا الكتاب لا يدخل إليه التحريف والتبديل ، ولا يكون فيه تناقض أو اختلاف { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وأما الثاني والثالث : فإنه تأويل ضعيف لا تقوم به حجة ، ويناقض الواقع فقد نسخت كثيراً من الأحكام الشرعية بالفعل كنسخ القبلة ، ونسخ عدة المتوفى عنها زوجها إلى آخر ما هنالك مما سنبينه إن شاء الله من التفضيل .
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور على وقوع النسخ بحجج كثيرة نوجزها فيما يلي :
الحجة الأولى : قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } فهذه الآية صريحة في وقوع النسخ .
الحجة الثانية : قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ . . . }
(1/38)

[ النحل : 101 ] قالوا : إن هذه الآية واضحة كل الوضوح في تبديل الآيات والأحكام ، والتبديلُ يشتمل على رفعٍ وإثبات ، والمرفوع إمّا التلاوة ، وإمّا الحكم ، وكيفما كان فإنه رفع ونسخ .
الحجة الثالثة : قوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا . . . } [ البقرة : 142 ] ثم قال تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] فقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ، ثمّ نسخ ذلك وأُمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام .
الحجة الرابعة : أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً في قوله جلّ ذكره { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول . . . } [ البقرة : 240 ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] .
الحجة الخامسة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] فهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثير تدل على وقوع النسخ فلا مجال للإنكار بحالٍ من الأحوال ، ولهذا أجمع العلماء على القول بالنسخ ، حتى روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال لرجلٍ : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا ، قال : هلكتَ وأهلكت الناس .
قال العلامة القرطبي : ( معرفة هذا الباب أكيدة ، وفائدته عظيمة ، لا تستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام ، وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوبون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة ) .
ثم قال : « لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء ، قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمآل الأمور ، وأمّا العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغيّر ، فإنّ ذلك محال في جهة الله تعالى » .
الحكم الثاني : ما هي أقسام النسخ في القرآن الكريم؟
ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام :
الأول : نسخ التلاوة والحكم معاً .
الثاني : نسخ التلاوة مع بقاء الحكم .
الثالث : نسخ الحكم وبقاء التلاوة .
أما الأول : وهو ( نسخ التلاوة والحكم ) فلا تجوز قراءته ، ولا العمل به ، لأنه قد نسخ بالكلية فهو كآية التحريم بعشر رضعات . . روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( كان فيما نزل من القرآن « عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن » فنسخن بخمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن ) .
(1/39)

قال الفخر الرازي : فالجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة ، والجزء الثاني ، وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية .
وأما الثاني : ( نسخ التلاوة وبقاء الحكم ) فهو كما قال الزركشي في « البرهان » : يُعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ، كما روي أنه كان في سورة النور ( الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) . ولهذا قال عمر : ( لولا أن يقال الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها بيدي ) .
وأخرج ابن حيان : في « صحيحه » عن ( أُبيّ بن كعب ) رضي الله عنه أنه قال : « كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور - أي في الطول - ثمّ نسخت آيات منها » .
وأما الثالث : ( نسخ الحكم وبقاء التلاوة ) فهو كثير في القرآن الكريم ، وهو كما قال ( الزركشي ) في ثلاث وستين سورة . . ومن أمثلة هذا النوع آية الوصية ، وآية العدة ، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والكف عن قتال المشركين . . الخ .
وقد ألّف الشيخ هبة الله بن سلامة « رسالة في الناسخ والمنسوخ » جاء فيها ما نصه :
« اعلم أن أول النسخ في الشريعة أمرُ الصلاة ، ثم أمرُ القبلة ، ثم الصيام الأول ، ثم الإعراض عن المشركين ، ثم الأمر بجهادهم ، ثم أمره بقتل المشركين ، ثم أمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، ثم ما كان أهل العقود عليه من المواريث ، ثم هدر منار الجاهلية لئلا يخالطوا المسلمين في حجّهم » الخ .
فائدة هامة : ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة؟
قال العلامة الزركشي : « وهنا سؤال وهو أن يسأل : ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه ، والعمل به ، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى ، فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة .
وثانيها : أن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ، ورفع المشقة حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه .
الحكم الثالث : هل ينسخ القرآن بالسنّة؟
اتفق العلماء على أنّ القرآن ينسخ بالقرآن ، وأن السنة تنسخ بالسنة ، والخبر المتواتر بغير المتواتر؟
فذهب الشافعي : إلى أن الناسخ للقرآن لا بدّ أن يكون قرآناً مثله ، فلا يجوز نسخ القرآن بالسنة عنده .
وذهب الجمهور : إلى جواز نسخ القرآن بالقرآن ، وبالسنّة المطهرّة أيضاً ، لأن الكل حكم الله تعالى ومن عنده .
دليل الشافعي :
استدل الإمام الشافعي على منع نسخ القرآن بالسنة بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ووجه الاستدلال عنده من وجوه :
الأول : أنه قال : { نَأْتِ } وأسند الإتيان إلى نفسه ، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآناً .
الثاني : أنه قال : { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ولا يكون الناسخ خيراً إلاّ إذا كان قرآناً لأن السنة لا تكون خيراً من القرآن .
(1/40)

الثالث : أنه قال في الآية : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؟ فقد دلت على أن الآتي بذلك الخير ، هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات ، وذلك هو الله ربّ العالمين .
الرابع : قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] حيث أسند التبديل إلى نفسه ، وجعله في الآيات وهذا أقوى أدلته .
أدلة الجمهور :
احتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ - نسخ آية الوصية وهي قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين } [ البقرة : 180 ] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض وهو قوله صلى الله عليه وسلم « ألا لا وصية لوارث » ولا ناسخ إلا السنّة .
ب - نسخُ الجلد عن الثيب المحصن في قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] ولا مسقط لذلك إلا فعلُه صلى الله عليه وسلم حيث أمر بالرجم فقط .
ج - وقالوا إنّ ما ورد في الكتاب أو السنة ، كلّه حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء ، لأن الله تعالى يقول : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3-4 ] .
د - وأجابوا عمّا استدل به الشافعي رحمه الله بأنه استدلال غير واضح . لأن الخيريّة إنما تكون بين الأحكام ، فيكون الحكم الناسخ خيراً من الحكم المنسوخ ، بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها ، ولا معنى لأن يكون لفظ الآية خيراً من لفظ آية أخرى ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالمدارُ على أن يكون الحكم الناسخ خيراً من المنسوخ ، أيّاً كان الناسخ قرآناً ، أو سنة ، لأنّ الكل تشريع الحكيم العليم .
الترجيح : ومن هنا يترجح رأي الجمهور ، لأن الخيرية والأفضلية إنما هي بحسب اختلاف الأحكام شدة وتيسيراً وتمام الأبحاث مستوفى في علم الأصول .
الحكم الرابع : هل يجوز النسخ إلى ما هو أشقّ وأثقل؟
قال الإمام الفخر : قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقلُ منه ، واحتجوا بأن قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ينافي كونه أثقل ، لأنّ الثقل لا يكون خيراً منه ، ولا مثله .
والجواب : لمَ لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة؟
ثم إنَّ الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت ، إلى ( الجلد والرجم ) ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصلاة ركعتين فنسخت بأربع في الحضر .
إذا عرفت هذا فنقول : أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الأمثلة المذكورة ، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها ، وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة .
(1/41)

الحكم الخامس : هل يقع النسخ في الأخبار؟
جمهور العلماء على أن النسخ مختصّ بالأوامر والنواهي ، والخبرُ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى .
وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل : 67 ] .
قال ابن جرير الطبري : « يعني جل ثناؤه بقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدّله ونغيّره ، وذلك أن يُحوّل الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، والمباح محظوراً ، والمحظور مباحاً . . ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنهي ، والحضر والإطلاق ، والمنع والإباحة ، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ » .
وقال القرطبي : والنسخ كله إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنْسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي ، فتأمل هذا فإنه نفيس .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - نسخ الأحكام جائز بالإجماع كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة .
2 - راعت الشريعة الغرَّاء مصالح العباد ، ولذا وقع النسخ في بعض الأحكام .
3 - النسخ لا يكون في الأخبار والقصص ، إنما يكون في الأحكام التي فيها حلال وحرام .
4 - الأحكام مرجعها إلى الله تعالى ، الذي يشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم .
5 - الله جل جلاله مالك الملك فيجب الاستسلام لحكمه وأمره مع الاطمئنان .
6 - ليس من شأن المسلم أن يسأل نبيّه سؤال تعنت كما فعل اليهود مع أنبيائهم .
7 - الانحراف عن طريق الاستقامة ، وسلوك سبيل الضالين سبب الشقاوة .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء محققة لمصالح الناس ، متمشية مع تطور الزمن ، صالحة لكل زمان ومكان . . وكان من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن سنّ لهم « سنة التدرج » في الأحكام ، لتبقى النفوس على أتم الاستعداد لتقبّل تلك التكاليف الشرعية ، فلا تشعر بملل أو ضجر ، ولا تحسّ بمشقة أو شدة . . ولتظلّ الشريعة الغراء - كما أرادها الله - شريعة سمحة ، سهلة لا عسر فيها ولا تعقيد ، ولا شطط فيها ولا إرهاق .
ومن المعلوم : أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس ، وهذه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فإذا شُرع حكمٌ في وقت من الأوقات كانت الحاجة ملحّة إليه ، ثم زالت تلك الحاجة ، فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر ، فيكون هذا التبديل والتغيير أقرب للمصلحة ، وأنفع للعباد . . وما مثل ذلك إلا كمثل الطبيب الذي يغيّر الأغذية والأدوية للمريض ، باختلاف الأمزجة ، والقابلية ، والاستعداد .
والأنبياء صلوات الله عليهم هم ( أطباء القلوب ) ومصلحوا النفوس ، لذلك جاءت شرائعهم مختلفة ، تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة ، وجاءت بسنة « التدرج » في الأحكام ، لأنها بمثابة الأدوية والعقاقير للأبدان ، فما يكون منها في وقت مصلحة ، قد يكون في وقت آخر مفسدة ، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى ، ذلك حكم العليم الحكيم .
(1/42)

جاء في تفسير « محاسن التأويل » ما نصه : « إن الخالق تبارك وتعالى ربّى الأمة العربية ، في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريجية ، لا تتم لغيرها - بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلاّ في قرون عديدة . . لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره ، وهذه سنة الخالق في الأفراد ، والأمم ، على حد سواء .
فإنك لو نظرتَ : في الكائنات الحية ، لرأيت أن النسخ ناموسٌ طبيعي محسوس ، في الأمور المادية والأدبية معاً ، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافع ، فشاب ، فكهل ، فشيخ ، وما يتبع كل دورٍ من هذه الأدوار يريك بأجلى دليل ، أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق .
وإذا كان هذا النسخ : ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يُستنكر نسخُ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرّج من أدنى إلى أرقى؟
هل يرى إنسان له مُسْكةٌ من عقل ، أنّ من الحكمة تكليف العرب - وهم في مبدأ أمرهم - بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني ، وغاية الكمال البشري؟!
وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله - وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلّف الأمة وهي في دور ( طفوليتها ) بما لا تتحمله إلا في دور ( شبوبيتها ) وكهولتها . . ؟
وأيّ الأمرين أفضل : أشرعُنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه ، وأتمّه بحيث لا يستطيع الإنسُ والجن أن يُنقصوا حرفاً منه ، لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لآية حالةٍ من حالات الإنسان؟ أم شرائع دينية أخرى ، حرّفها كهّانها ، ونسخ الوجود أحكامها - بحيث يستحيل العمل بها - لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه . . ؟! »
(1/43)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
[ 3 ] التوجه إلى الكعبة في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
التحليل اللفظي
{ السفهآء } : أصل السفه في كلام العرب : الخفة والرقة ، يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسخ خفيفه ، أو كان بالياً رقيقاً ، وسفّهته الرياح أي أمالته قال ذو الرمّة :
مشيْنَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهتْ ... أعاليَها مرّ الرياح النّواسِمِ
والسّفه : ضد الحلم وهو خفة وسخافة يقتضيها نقصان العقل ، ولهذا سمّى الله الصبيان سفهاء { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } [ النساء : 5 ] .
{ ولاهم } : يعني صرفهم ، يقال : ولىّ عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف ، وهو استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب .
{ قِبْلَتِهِ } : القبلة من المقابلة وهي المواجهة ، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل ، ثم خصّت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة .
{ وَسَطاً } : أي عدولاً خياراً ، ومنه قوله تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [ القلم : 28 ] أي خيرهم أو عدلهم ، قال الشاعر :
هم وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمِهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمُعْظَم
وأصل هذا أنّ خير الأشياء أوساطها ، وأن الغلوّ والتقصير مذمومان .
قال الجوهري في « الصحاح » : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي عدلاً ، وكذلك روي عن الأخفش ، والخليل .
وقال الزمخشري : وقيل للخيار وسطٌ؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأوساط محميةٌ محوّطة ومنه قول أبي تمام .
كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت ... بها الحوادثُ حتّى أصبحتْ طرفاً
{ عَقِبَيْهِ } : العقبان : تثنية عقب ، وهو مؤخر القدم ، والانقلابُ عليهما بمعنى الانصراف والرجوع ، يُقال : انقلب على عقبيه إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء .
والمعنى : لنعلم من يثبت على الإيمان ، ممّن يرتد عن دين الإسلام ، ويرجع إلى ما كان عليه من ضلال ، والكلام فيه استعارة كما سيأتي .
{ لَكَبِيرَةً } : أي شاقة ثقيلة تقول : كبر عليه الأمر أي اشتد وثقل .
{ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } : الرأفة هي الرحمة ، إلاّ أن الرأفة في دفع المكروه ، والرحمة أعم تشمل المكروه والمحبوب .
{ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } : تقلّبُ الوجه في السماء : ترّدده المرة بعد المرة فيها ، والسماءُ مصدر الوحي ، وقبلة الدعاء .
قال الزجاج : المراد تقلب عينيك في النظر إلى السماء .
وقال قطرب : تحول وجهك إلى السماء وهما متقاربان .
ومعنى الآية : كثيراً ما نرى تردّد وجهك ، وتصرّف نظرك في جهة السماء متشوقاً لنزول الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة .
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } : أي لنمكننّك من استقبالها ، من قولك : وليّتُه كذا إذا جعلته والياً له ، فيكون من الولاية ، أو من التولي ، والمعنى : فلنجعلنّك متولياً جهتها ، وهذه بشارة من الله تعالى لرسوله الكريم بتوجيهه إلى القبلة التي يحب .
{ شَطْرَ المسجد } : والشطرُ في اللغة يكون بمعنى الجهة والناحية كما في هذه الآية ومنه قول الشاعر :
أقول لأمّ زِنبْاعٍ أقيمي ... صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم
ويكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « الطهور شطر الإيمان »
(1/44)

والشاطر : الشاب البعيد عن أهله ومنزله ، وهو من أعيا أهله خُبْثاً ، وسئل بعضهم عن الشاطر فقال : هو من أخذ في البعد عمّا نهى الله عنه .
ومعنى الآية : فولّ وجهك جهة المسجد الحرام أي جهة الكعبة .
{ أُوتُواْ الكتاب } : المراد بهم أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ، والكتابُ : التوراةُ والإنجيل .
وجه المناسبة بين الآيات
كان صلوات الله عليه وهو بمكة يستقبل بيت المقدس في الصلاة ، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون ، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وقد جاء بإحياء ملته ، وتجديد دعوته ، ولأنها أقدم القبلتين ، وقد كان اليهود يقولون : يخالفنا محمد في ديننا ، ويتّبع قبلتنا ، ولولا ديننا لم يدر أين يتوجه في صلاته ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم البقاء على قبلتهم ، حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة .
وقد أخبر الله جل ثناؤه رسوله الكريم بما سيقوله السفهاء الجهال ، من اليهود المنافقين ، قبل تحويل القبلة ، ولقنّه الحجة البالغة ليردّ عليهم ، ويوطّن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه ، ويعدّ الجواب القاطع لحجة الخصم ، وقد قيل في الأمثال « مثل الرمي يراشُ السهم » وليكون الوقوع بعد الإخبار معجزة له عليه السلام .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : سيقول السفهاء من الناس - وهم أهل الضلال من اليهود والمشركين والمنافقين - ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يتوجهون إليها جهة بيت المقدس وهي قبلة النبيّين والمرسلين من قبلهم؟ قل لهم يا محمد : لله المشرق والمغرب ، الجهات كلّها لله ، وهو سبحانه يتصرف في ملكه كيف شاء على ما تقتضيه حكمته البالغة ، يهدي من شاء من عباده ، إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين .
وكما هديناكم - أيها المؤمنون - فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته ، كذلك فضّلناكم على من سواكم من أهل الملل ، فجعلناكم أمة عدولاً خياراً ، لتشهدوا للأنبياء يوم القيامة على أممهم أنّهم قد بلّغوهم رسالة الله ، ويشهد لكم الرسول بالإيمان والاتباع لما جاء به من الدين الحنيف ، وما أمرناك بالتحول عن القبلة التي كنت عليها إلى الكعبة ، إلا ليتبيّن للناس الثابت على إيمانه من المتشكك في دينه ، الذي هو عرضة لرياح الشبهات التي يثيرها أعداء الدين ، فينافق أو يكفر ، ويرتد عن دينه لأبسط الشبهات ، وما كان الله ليضيع صلاتكم ، إن الله رحيم بعباده ، لا يبتليهم ليضيع عليهم أعمالهم ، ولكنْ ليجزيهم أحسن الجزاء .
كثيراً ما رأينا تردّد بصرك - يا محمد - جهة السماء ، تطلعاً للوحي وتشوقاً لتحويل القبلة ، فلنوجهنّك إلى قبلة تحبها ، فتوجه في صلاتك نحو المسجد الحرام ، وأنتم - أيها المؤمنون - استقبلوا بصلاتكم جهته أيضاً ، فهي قبلتكم وقبلة أبيكم إبراهيم ، وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام ، هو الحق المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ولكنّهم يفتنون ضعاف المؤمنين ، ليشككوهم في دينهم ، بإلقاء الشبهات والأباطيل في نفوسهم ، وما الله بغافل عما يعملون فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن ، المحاسب على ما في السرائر .
(1/45)

سبب النزول
أ - أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ( صلاة العصر ) وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
ب - وعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } بالمد في { رؤوف } مع الهمز على وزن فعول ، وقرأ الكسائي وحمزة { لَرَءُوفٌ } على وزن رَعُف ، ويقال : هو الغالب على أهل الحجاز ، قال جرير :
ترى للمسلمين عليكَ حقاً ... كفعل الوالد الرّؤفِ الرحيم
ثانياً : قرأ الجمهور { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بالياء في { يَعْمَلُونَ } فيكون وعيداً لأهل الكتاب ، وقرأ الحمزة والكسائي { عَمَّا يَعْمَلُونَ } بالتاء فيكون وعيداًَ للفريقين : المؤمنين والكافرين .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } الكاف للتشبيه وهي في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : كما هديناكم جعلناكم أمة وسطاً ، أي مثل هدايتنا لكم كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، و ( أمة ) مفعول ثانٍ لجعلنا ، و ( وسطاً ) صفة لها .
ثانياً : قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } ( إنْ ) مخففة من ( إنّ ) الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، واللام في قوله ( الكبيرة ) للفرق بين المخففة والنافية ، كما في قوله تعالى : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] وزعم الكوفيون أنها نافية ، واللام بمعنى إلاّ ، أي ما كانت إلا كبيرة ، قال العكبري : وهو ضعيف جداً من جهة أن وقوع اللام بمعنى إلا لا يشهد له سماع ولا قياس .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أخبر المولى جلّ وعلا عمّا سيقوله السفهاء من اليهود قبل تحويل القبلة ، والإخبار فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على صدق ما جاء به ، لأنه إخبار عن أمر مغيّب ، كما فيه الجواب القاطع لحجة الخصم العنيد .
(1/46)

قال الزمخشري في « الكشاف » : « فإن قلت : أيّ فائدةٍ في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت : فائدته أن مفاجأة المكروه أشد ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع ، لما يتقدمه من توطين النفس ، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم ، وأردّ لشَغَبه ، وقبل الرمي يُراش السهم » .
اللطيفة الثانية : ردّ القرآن بالحجة الدامغة على السفهاء ( اليهود ، والمشركين ، والمنافقين ) في قوله جل وعلا : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وتقريره أنّ الجهات كلها لله تعالى ، لا فضل لجهةٍ منها بذاته على جهة ، ولا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى خصّها بذلك ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة ، وأن العبرة بالتوجه إليه سبحانه بالقلوب ، واتباع أمره في توجه الوجوه .
فكيف يعترضون عليك يا محمد؟ لا شك أنهم أغبياء الأفهام ، سفهاء الأحلام .
اللطيفة الثالثة : التعبير بقوله تعالى : { أُمَّةً وَسَطاً } فيه لطيفة ، وهي أن خير الأمور أوساطها ، فالزيادة على المطلوب في الأمر إفراط ، والنقصُ عنه تفريط وتقصير ، وكلٌ من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادة القويمة ، فهو شر ومذموم ، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر ، أي التوسط بينهما .
وذكر ابن جرير الطبري : « أنه من التوسط في الدين ، فإن المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود ، الذين قتلوا الأنبياء ، وبدّلوا كتاب الله ، ولم يضلوا كالنصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله ، وغلوا في الترهيب غلواً كبيراً ، ولكنّهم أهل توسط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها » .
اللطيفة الرابعة : في شهادة هذه الأمة على الأمم يوم القيامة أكبر دليل على فضل هذه الأمة المحمدية ، وقد روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلّغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون ، فتقول الأمم : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ فيقولون : نشهد بإخبار الله عز وجل الناطق ، على لسان نبيه الصادق بأنه قد بلغكم ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيزكيهم ويشهد بعدالتهم .
أخرج البخاري في « صحيحه » : عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلغت فيقول : نعم ، فيقال لأمته : هل بلّغكم؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير ، فيقول : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، فيشهدون أنه قد بلّغ «
(1/47)

، فذلك قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول } أوّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى ( لنعلم ) لنرى . والعرب تضع العلم ماكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] بمعنى : ألم تعلم .
قال الطبري : « الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وقوعها ، وإنما تأويل الآية { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } أي ليعلم رسولي وأوليائي ، إذا كان من شأن العرب إضافة أتباع الرئيس إلى الرئيس ، نحو فتح عمر سواد العراق ، وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه » .
وقال ابن عباس : المعنى : لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة ، ففسّر العلم ب ( التمييز ) لأن بالعلم يقع التمييز .
وقال الزمخشري في « الكشاف » : المراد بالعلم ( علم المعاينة ) الذي يتعلق به الثواب والجزاء كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] .
اللطيفة السادسة : في قوله تعالى : { مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } استعارة تمثيلية حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه ، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلمّا تركوا الإيمان والدلائل ، صاروا بمنزلة المدبر عمّا بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر } [ المدثر : 23 ] .
اللطيفة السابعة : سمّى الله تعالى الصلاة ( إيماناً ) في قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي صلاتكم لأن الإيمان لا يتم إلاّ بها ، ولأنها تشتمل على نيّة ، وقول ، وعمل .
قال القرطبي : اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس ، لما روي عن ابن عباس أنه قال : لمّا وُجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، قالوا يا رسول الله : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .
ثمّ قال : فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل .
قال مالك : وفيه رد على من قال : إن الصلاة ليست من الإيمان .
اللطيفة الثامنة : قال الزمخشري : إنّ ( قد ) هنا بمعنى ( ربما ) وهي للتكثير ، ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر :
قد أتركُ القِرْنَ مصفَرّاً أناملُه ... كأنّ أثوابَه مُجّتْ بفرصاد
قال أبو حيان : التكثير مستفاد من لفظ التقلب لأنه مطاوع التقليب ، ومن نظر مرة أو ردّد بصره مرتين أو ثلاثاً لا يقال : إنه قلّب ، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير .
والتعبير بقوله تعالى : { قَدْ نرى } بمعنى قد رأينا ، لأن { قَدْ } تقلب المضارع ماضياً كما يقول النحاة ومنه قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين } [ الأحزاب : 18 ] وقوله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ } [ الحجر : 97 ] أي قد علمنا .
اللطيفة التاسعة : قال المحققون من أهل التفسير : في قوله تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } في هذه الآية تنبيه لطيف على حسن أدبه عليه السلام حيث انتظر الوحي ولم يسأل ربه ، وقد أكرمه الله تعالى على هذا الأدب بقبلة يحبها ويهواها فقال تعالى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } وفي سبب محبته عليه الصلاة والسلام التوجه إلى المسجد الحرام وترك التوجه إلى بيت المقدس وجوه :
الأول : مخالفةً لليهود حيث كانوا يقولون : يخالفنا محمد ثم يتّبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل .
(1/48)

الثاني : أن الكعبة المشرّفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرحمن .
الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في تحويل القبلة استمالة للعرب لدخولهم في الإسلام .
الرابع : منشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في البلد الأمين وفيه المسجد الحرام الذي هو قبلة المساجد فأحب أن يكون هذا الشرف للمسجد الذي في بلتده ومنشئه .
اللطيفة العاشرة : في التعبير عن ( الكعبة ) بالمسجد الحرام إشارة لطيفة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، والسرّ في الأمر بالتولية خاصاً وعاماً { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ثم قال : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } مع أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته هو الاهتمام لشأن القبلة ، ودفع توهم أن الكعبة قبلة أهل المدينة وحدهم ، لأن الأمر بالصرف كان فيها ، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية .
قال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفاً له وإيجاباً لرغبته عليه الصلاة والسلام ، وأما خطابه العام بعده فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا قد خُصّ عليه الصلاة والسلام به ، كما خُصّ في قوله { قُمِ اليل } [ المزمل : 2 ] ، ولما كان تحويل القبلة له خطر خصّهم بخطاب مفرد .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالمسجد الحرام في القرآن الكريم؟
ورد ذكر { المسجد الحرام } في آيات متفرقة من القرآن الكريم ، وفي السنة المطهرة أيضاً ، وقصد به عدة معان :
الأول : الكعبة ، ومنه قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } أي جهة الكعبة .
الثاني : المسجد كلّه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « صلاةٌ في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام » وقوله عليه الصلاة والسلام : « لا تُشدّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى » .
الثالث : مكة المكرمة كما في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من مكة المكرمة ، وقوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] وقد صدورهم عن دخول مكة .
الرابع : الحرم كله ( مكة وما حولها من الحرم ) كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] والمراد منعهم من دخول الحرم .
والمراد بالمسجد الحرام هنا هو المعنى الأول ( الكعبة ) والمعنى : فولّ وجهك شطر الكعبة .
(1/49)

الحكم الثاني : هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟
استقبال القبلة فرض من فروض الصلاة ، لا تصح الصلاة بدونه ، إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع ، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة ، فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته ، لما رواه أحمد ومسلم والترمذي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به ، وفيه نزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115 ] .
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، إنما الخلاف هل الواجب استقبال عين الكعبة أم استقبال الجهة؟
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب استقبال عين الكعبة .
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّ الواجب استقبال جهة الكعبة ، هذا إذا لم يكن المصلي مشاهداً لها ، أمّا إذا كان مشاهداً لها فقد أجمعوا أنه لا يجزيه إلا إصابة عين الكعبة ، والفريق الأول يقولون : لا بدّ للمشاهد من إصابة العين ، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة ، والفريق الثاني يقولون : يكفي للغائب التوجه إلى جهة الكعبة .
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم بالكتاب ، والسنة ، والقياس .
أ - أما الكتاب ، فهو ظاهر هذه الآية { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ووجه الاستدلال : أن المراد من الشطر الجهة المحاذية للمصلي والواقعة في سمته ، فثبت أن استقبال عين الكعبة واجب .
وأما السنة : فما روي في « الصحيحين » عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال : « لمّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلّها ، ولم يصلّ حتى خرج منه ، فلمّا خرج صلى ركعتين من قِبَل الكعبة ، وقال : هذه القبلة » .
قالوا : فهذه الكلمة تفيد الحصر ، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة .
ج - وأما القياس : فهو أنّ مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم الكعبة ، أمر بلغ مبلغ التواتر ، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيفُ صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف ، فوجب أن يكون مشروعاً .
وقالوا أيضاً : كونُ الكعبة قبلة أمر مقطوع به ، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك فيه ، ورعايةُ الاحتياط في الصلاة أمر واجب ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال عين الكعبة .
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل المالكية والحنفية على مذهبهم بالكتاب ، والسنة وعمل الصحابة ، والمعقول .
أ - أما الكتاب : فظاهر قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ولم يقل : شطر الكعبة ، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام ، فقد أتى بما أمر به سواء أصابَ عين الكعبة أم لا .
ب - وأما السنة : فقوله عليه الصلاة والسلام : « ما بين المشرق والمغرب قِبْلةٌ » .
وحديث : « البيتُ قبلةٌ لأهل المسجد والمسجدُ قبلةٌ لأهل الحرم ، والحرامُ قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي » .
(1/50)

ج - وأما عمل الصحابة : فهو أنّ أهل ( مسجد قباء ) كانوا في صلاة الصبح بالمدينة ، مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين الكعبة ، فقيل لهم : إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، وسُمّي مسجدهم ( بذي القبلتين ) . ومعرفةُ عين الكعبة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة ، وفي ظلمة الليل؟
د - وأما المعقول : فإنه يتعذر ضبط ( عين الكعبة ) على القريب من مكة ، فكيف بالذي هو في أقاصي الدنيا من مشارق الأرض ومغاربها؟ ولو كان استقبال عين الكعبة واجباً ، لوجب ألا تصحّ صلاة أحدٍ قط ، لأن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة نيّف وعشرين ذراعاً من الكعبة ، ولا بدّ أن يكون بعضهم قد توجّه إلى جهة الكعبة ولم يصب عينها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أنّ إصابة عينها على البعيد غير واجبة { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .
ومن جهة أخرى : فإن الناس من عهد النبي عليه الصلاة والسلام بنوا المساجد ، ولم يحضروا مهندساً عند تسوية المحراب ، ومقابلةُ العين لا تُدرك إلا بدقيق نظر الهندسة ، ولم يقل أحد من العلماء إنّ تعلم الدلائل الهندسية واجب ، فعلمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب .
الترجيح : هذه خلاصة أدلة الفريقين سقناها لك ، وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أن أدلة الفريق الثاني ( المالكية والأحناف ) أقوى برهاناً ، وأنصع بياناً ، لا سيما للبعيد الذي في أقاصي الدنيا ، وأصول الشريعة السمحة تأبى التكليف بما لا يطاق ، وكأنّ الفريق الأول حين أحسوا صعوبة مذهبهم ، خصوصاً من غير المشاهد لها قالوا : « إن فرض المشاهد للكعبة إصابةُ عينها حسّاً ، وفرض الغائب عنها إصابة عينها قصداً » وبعد هذا يكاد يكون الخلاف بين الفريقين شكلياً ، لأنهم صرحوا بأنّ غير المشاهد لها يكفي أن يعتقد أنه متوجه إلى عين الكعبة ، بحيث لو أزيلت الحواجز يرى أنه متوجه في صلاته إلى عينها ، وفي هذا الرأي جنوح إلى الاعتدال ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
قال العلامة القرطبي : في تفسيره « الجامع لأحكام القرآن » ما نصّه :
« واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين ، أو الجهة ، فمنهم من قال بالأول ، قال ابن العربي : وهو ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه ، ومنهم من قال بالجهة وهو الصحيح لثلاثة أوجه :
الأول : أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف .
الثاني : أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
الثالث : » أنّ العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يُعلم قطعاً أنه أضعاف عرض البيت « .
الحكم الثالث : هل تصح الصلاة فوق ظهر الكعبة؟
وبناءً على الخلاف السابق : هل القبلة عين الكعبة أم جهتها؟ انبنى خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة ، هل تصح أم لا؟
فذهب الشافعية والحنابلة : إلى عدم صحة الصلاة فوقها ، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها إنما يستقبل شيئاً آخر .
(1/51)

وأجاز الحنفية : الصلاة فوقها مع الكراهية ، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب ، إلا أنّ الصلاة تصحّ بناء على مذهبهم من أن القبلة هي الجهة : من قرار الأرض إلى عنان السماء ، والله تعالى أعلم .
الحكم الرابع : أين ينظر المصلي وقت الصلاة؟
ذهب المالكية : إلى أن المصلي ينظر في الصلاة أمامه .
وقال الجمهور : يستحبُ أن يكون نظره إلى موضع سجوده ، وقال شريك القاضي : ينظر في القيام إلى موضع السجود ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى حجْره .
قال القرطبي : في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه ، في أنّ المصلي حكمُه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
قال ابن العربي : « إنما ينظر أمامه ، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلّف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، وما جعل علينا في الدين من حرج » .
الترجيح :
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، فإن المصلي إذا نظر إلى مكان السجود لا يخرج عن كونه متوجهاً إلى الكعبة ، وإنما استحبوا ذلك حتى لا يتشاغل في الصلاة بغيرها وليكون أخشع لقلبه والله أعلم .
وهناك أحكام أخرى جزئية تطلب من كتب الفروع .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : إعتراض اليهود على تحويل القبلة سفه وجهالة لأنه لا يعتمد على منطق سليم .
ثانياً : الجهات كلّها لله تعالى خَلْقاً وملكاً فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى .
ثالثاً : الأمة المحمدية أفضل الأمم لذلك اختارها الله للشهادة على الخلائق يوم القيامة .
رابعاً : تحويل القبلة امتحانٌ لإيمان الناس ليتميّز المؤمن الصادق عن الفاجر المنافق .
خامساً : أدب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنعه من سؤال تحويل القبلة ولذلك أكرمه الله بما يرضى .
سادساً : الكعبة المشرفة قبلة أبي الأنبياء وقد جمع الله بها قلوب العباد .
سابعاً : أهل الكتاب يعلمون أن تحويل القبلة حق ولكنهم أرادوا فتنة المؤمنين .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
هذا البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، هو قبلة أهل الأرض ، كما أنّ البيت المعمور قبلة أهل السماء يطوفون حوله يسبّحون بحمد الله .
وقد اقتضت حكمة الله أن يجمع ( أمة التوحيد ) على قبلةٍ واحدة ، فأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني هذا البيت العتيق ، ليكون مثابة للناس وأمناً ، ومصدراً للإشعاع والنور الرباني ، ومكاناً لحج بيته المعظم ، يأتيه الناس من كل فج عميق
(1/52)

{ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] . وقد أمر الله رسوله الكريم بالتوجه إليه في الصلاة ، بعد أن توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وذلك لحكمة جليلة هي امتحان إيمان الناس ، واختبار صدق يقينهم ، ليظهر المؤمن الصادق ، من الكاذب المنافق ، وليعيد لهذه الأمة التي اختارها الله ، قيادة ركب الإنسانية ، بعد أن تخلت عنها ردحاً من الزمان كما قال تعالى : { هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس . . . } [ الحج : 78 ] .
فالكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً - هي رمز التوحيد - ومظهر الإيمان ، وقبلة أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن وحولها تلتقي أفئدة الملايين من المؤمنين لأنها مظهر وحدتهم ، وسرّ اجتماع كلمتهم ، فلا عجب أن يأمرهم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتهم ، أينما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ . . . } .
قال الإمام الفخر : ( وقد ذكروا في تعيين القبلة في الصلاة حِكماً :
أحدها : أن العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم ، فإنه لا بدّ أن يستقبله بوجهه ، وألا يكون معرضاً عنه ، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه ، ويبالغ في الخدمة والتضرع له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقلاً للملك لا معرضاً عنه ، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة .
وثانيها : أن المقصود من الصلاة حضور القلب ، وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الإلتفات والحركة ، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين ، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف كان استقبال تلك الجهة أولى .
وثالثها : أن الله تعالى يحب الألفة بين المؤمنين ، وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً . . . } [ آل عمران : 103 ] ولو توجّه كل واحد في صلاته إلى ناحية ، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً ، فعيّن الله تعالى لهم جهة معلومة ، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها ، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك .
ورابعها : أن الله تعالى خصْ الكعبة بإضافتها إليه في قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } [ الحج : 26 ] وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه { ياعبادي } [ العنكبوت : 56 ] ، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم ، فكأنه تعالى قال : يا مؤمن أنتَ عبدي ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، فأقبلْ بوجهك في خدمتي إلى بيتي ، وبقلبك إليّ . . ) .
(1/53)

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
[ 4 ] السعي بين الصفا والمروة
التحليل اللفظي
{ الصفا والمروة } : الصفا في أصل اللغة : الحجرُ الأملس ، واشتقاقه من صفا إذا خلص ، ومنه الصفوان وهو الحجر الأملس الصلب قال تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } [ البقرة : 264 ] ، والصفا جمعٌ مفردة ( صفاة ) قال جرير :
إنّا إذا قرع العدو صفاتنا ... لاقوالنا حجراً أصمّ صلودا
قال المبرّد : الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من تراب أو طين .
وأما المروة : فقال الخليل : هي من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة ، وجمعها ( مرو ) مثل تمرة وتمرٌ قال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مَرْوةٌ ... بصفا المشاعر كلّ يوم يُقرع
قال الألوسي : وقد صار في العُرف علمين لموضعين ( جبلين ) معروفين بمكة
{ شَعَآئِرِ الله } : جمع شعيرة وهي في اللغة العلامة ، ومنه الشعار للعلامة ، وأشعر الهدي أي جعل له علامة ليعرف أنه هديٌ قال الشاعر :
نقتّلهمْ جيلاً فجيلاً تراهُمُ ... شعائر قُربانَ بهمُ يتقرب
والمراد أن هذين الموضعين من علامات دين الله ، ومن معالمه ومواضع عباداته .
والشعائر تطلق على كل معالم الدين التي تعبدنا الله تعالى بها كالطواف ، والسعي والأذان الخ .
{ حَجَّ } : الحجّ في اللغة : القصدُ وإكثار التردّد إلى الشيء ، قال الشاعر :
ألم تعلمي يا أمّ عمرةَ أنني ... تخاطأني ريبُ الزمان لأكبرا
وأشهد من عوفٍ حلولاً كثيرة ... يحجّون بيتَ الزّبرقان المزغفرا
يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته .
وفي الشرع : هو قصد البيت العتيق لأداء المناسك من الطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة وسائر الأعمال .
{ اعتمر } : العمرة في اللغة : الزيارة ، والمعتمر : الزائر لأنه يعمر المكان بزيارته له قال الشاعر :
« لقد سَمَا ابنُ مَعْمرٍ حين اعتمر » ... وفي الشرع : زيارة البيت لأداء نُسك معين من الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير . وليس في العمرة وقوف بعرفة ، ولا مبيت بمزدلفة ، ولا رمي جمار إلى آخر ما هو معروف في الفقه .
{ جُنَاحَ } : الجناح بالضم : الميلُ إلى الإثم ، وقيل : هو الإثم نفسه ، سمي جناحاً لأنه ميل إلى الباطل .
قال في « لسان العرب » : جنح : مال . وجنحت الناقة : إذا مالت على أحد شقيها ، وجنحت السفينة إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت بالأرض فلم تمض .
قال ابن الأثير : وقد تكرر الجناح في الحديث فأين ورد فمعناه الإثم والميل .
والمعنى : لا إثم عليكم ولا حرج ولا تضييق في السعي بين الصفا والمروة .
{ يَطَّوَّفَ } : أي يتطوّف أدغمت التاء في الطاء ، مثل ( المزمّل ) و ( المدّثر ) أصله المتزمل والمتدثر ، وطاف وأطاف بمعنى واحد .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : إن الصفا والمروة - أيها المؤمنون - من علامات دين الله ، التي جعلها الله لعباده معلماً ومشعراً ، يعبدونه عندها بالدعاء ، والذكر ، وسائر أنواع القربات .
والسعيُ بين هذين الجبلين شعيرة من شعائر الدين ، ومنسك من مناسك الحج لا يصح التفريط فيه ، لأنه تشريع الحكيم العليم ، الذي أمر به خليله إبراهيم عليه السلام ، حين سأل ربه أن يريه مناسك الحج
(1/54)

{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } [ البقرة : 128 ] .
فمن قصد منكم - أيها المؤمنون - بيت الله العتيق للحج ، أو قصده للزيارة ، فلا يتحرجنّ من الطواف بينهما ، إذ لا إثم عليه ولا حرج لأنه إنما يسعى لله ، امتثالاً لأمره ، وطلباً لرضاه ، والمشركون يطوفون للأصنام ، وأنتم تطوفون لله ربّ العالمين . فلا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين ، فهم يطوفون بهما كفراً ، وأنتم تطوفون بهما إيماناً وتصديقاً لرسولي ، وطاعة لأمري ، فلا إثم ولا جناح عليكم في الطواف بهما ، ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه ، فإن الله شاكر له طاعته ، ومجازيه عليها خير الجزاء يوم الدين .
سبب النزول
أ - عن عائشة رضي الله عنها أن عُروة بن الزبير قال لها : أرأيتِ قول الله تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فما أرى على أحدٍ جُناحاً ألاّ يطّوف بهما ، فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت « فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما » ولكنها إنما نزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها ، وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله : إنّا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله . . . } قالت عائشة ثمّ قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحدٍ أن يدع الطواف بهما .
ب - وأخرج البخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال : « كنّا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله . . } .
وجوه القراءات
قرأ الجمهور : ( ومن تَطوّعَ ) بالتاء وفتح العين على أنه ماضٍ من التطوع ، وقرأ حمزة والكسائي ( ومن يَطوّعْ ) بالياء مجزوم على أنه فعل مضارع إلا أنّ التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله } .
قال العكبري : في الكام حذف مضاف تقديره : إن سعي الصفا ، وألف الصفا مبدلة عن ( واو ) لقولهم في تثنيته صفوان و ( من شعائر الله ) خبر إنّ .
2 - قوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } مَنْ : اسم موصول بمعنى الذي مبتدأ ، وجملة { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ } خبر المبتدأ ، وأجاز بعضهم أن تكون ( من ) شرطية والله أعلم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال الإمام الفخر : » اعلم أن تعلّق هذه الآية بما قبلها ، هو أن الله تعالى بيّن أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ، ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، بإحياء شرائع إبراهيم ودينه ، وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم كما في قصة بناء الكعبة ، وسعي هاجر بين الجبلين ، فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية « .
(1/55)

اللطيفة الثانية : السعيُ بين الصفا والمروة إمّا فرض أو واجب ، أو مسنون ، فكيف نفى الله تعالى الجناح ( الإثم ) عمن سعى بينهما؟
والجواب : إنه كان على الصفا صنم يقال له : ( إساف ) وعلى المروة صنم يقال له : ( نائلة ) كما قال ابن عباس وكان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما ، فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية ، وتحرجوا من الطواف لهذا السبب ، فنزلت الآية تدفع الحرج عنهم ، لأنهم إنما يسعون لله لا للأصنام .
اللطيفة الثالثة : الشكر معناه مقابلة النعمة والإحسان ، بالثناء والعرفان ، وهذا المعنى محال على الله ، إذ ليس لأحد عنده يد ونعمة حتى يشكره عليها ، فقوله تعالى : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } محمول على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين .
قال العلامة أبو السعود : « المعنى أنه تعالى مجازٍ له على الطاعة ، عبّر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإحسان على العباد » فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكراً ، وسمى الله تعالى نفسه شاكراً ، على سبيل المجاز .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل السعي بين الصفا والمروة فرض أو تطوع؟
اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة على ثلاثة أقوال :
1 - القول الأول : أنه ركن من أركان الحج ، من تركه يبطل حجه وهو مذهب ( الشافعية والمالكية ) وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو مروي عن ابن عمر ، وجابر ، وعائشة من الصحابة .
2- القول الثاني : أنه واجب وليس بركن ، وإذا تركه وجب عليه دم ، وهو مذهب ( أبي حنيفة والثوري ) .
3 - القول الثالث : أنه تطوع ( سنّة ) لا يجب بتركه شيء ، وهو مذهب ابن عباس ، وأنس ، ورواية عن الإمام أحمد .
دليل المذهب الأول :
استدل القائلين بأن السعي ركن وهم ( الجمهور ) بما يلي :
أ - قوله عليه الصلاة والسلام : « اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي » .
ب - ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام سعي في حجة الوداع ، فلما دنا من الصفا قرأ { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله } فبدأ بالصفا وقال : « أبدؤوا بما بدأ الله به » ثم أتمّ السعي سبعة أشواط وأمر الصحابة أن يقتدروا به فقال : « خذوا عني مناسككم » والأمر للوجوب فدل على أنه ركن .
ج - حديث عائشة : ( لعمري ما أتمّ الله حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة ) .
د - وقالوا : إنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ، وهو نسك في الحج والعمرة ، فكان ركناً فيهما كالطواف بالبيت .
(1/56)

دليل المذهب الثاني :
واستدلّ ( أبو حنيفة والثوري ) على أنه واجب وليس بركن بما يلي :
أ - إن الآية الكريمة رفعت الإثم عمّن تطّوف بهما { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ورفعُ الجناح يدل على الإباحة لا على أنه ركن ، ولكنّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم جعله واجباً فصار كالوقوف بالمزدلفة ، ورمي الجمار ، وطواف الصدر ، يجزئ عنه دم إذا تركه .
ب - واستدل بما روى الشعبي عن ( عروة بن مضرس الطائي ) قال : « أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول الله : جئت من جبل طي ، ما تركتُ جبلاً إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسلام : من صلى معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا هذا الموقف ، وقد أدرك عرفة قبل ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ، وقضى تفثه » .
ووجه الاستدلال في الحديث من وجهين :
أحدهما : إخباره بتمام الحج وليس فيه السعي بين الصفا والمروة .
والثاني : أنه لو كان من فروضه وأركانه لبيّنه للسائل لعلمه بجهله بالحكم .
دليل المذهب الثالث :
واستدل من قال بأنه تطوع وليس بركنٍ ولا واجب بما يلي :
أ - قوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } فبيّن أنه تطوع وليس بواجب ، فمن تركه لا شيء عليه عملاً بظاهر الآية .
ب - حديث ( الحج عرفة ) قالوا : فهذا الحديث يدل على أنّ من أدرك عرفة فقد تمّ حجه ، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه ، العمل ترك به في بعض الأشياء ، فبقي العمل معمولاً به في السعي .
قال ابن الجوزي : « واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة ، فنقل الأثرم أنّ من ترك السعي لم يجزه حجه ، ونقل أبو طالب : لا شيء في تركه عمداً أو سهواً ، ولا ينبغي أن يتركه ، ونقل الميموني أنه تطوع » .
الترجيح : ورجّح صاحب « المغني » المذهب الثاني وقال : هو أولى لأن دليل من أوجبه دلّ على مطلق الوجوب ، لا على كونه لا يتم الواجب إلا به ، وقول عائشة مُعَارَضٌ بقول من خالفها من الصحابة .
أقول : الصحيح قول الجمهور لأن النبي عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة وقال : « خذوا عني مناسككم » والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واجب ودعوى من قال : إنه تطوع أخذاً بالآية غير ظاهر لأن معناها كما قال الطبري : أن يتطوع بالحج والعمرة مرة أخرى والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - الصفا والمروة من شعائر دين الله وأعلام طاعته التي تعبدنا الله بها .
2 - السعي بين الصفا والمروة إحياء لحادثة تاريخية وقعت لأم إسماعيل عليها السلام .
(1/57)

3 - تمسّحُ المشركين بالأصنام في الجاهلية عند السعي لا يمنع المؤمنين من السعي بينهما .
4 - السعي واجب على من حج بيت الله العتيق أو زاره للعمرة .
5 - التطوع بالحج والعمرة في غير الفريضة من مظاهر كمال الإيمان .
6 - الله شاكر لعباده يثيب الطائع على طاعته ويجزيه عليها خير الجزاء .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أمر جل ثناؤه المؤمنين بالسعي بين الصفا والمروة ، عند الحج أو العمرة ، وجعل السعي من شعائر دين الله ، ومن معالم طاعته ، وذلك إحياء لحادثة تاريخية من أروع الذكريات في تاريخ الإنسانية ، تلك هي حادثة إسماعيل عليه السلام مع أمه ( هاجر ) المؤمنة الصابرة ، بعد أن تركهما الخليل إبراهيم عليه السلام في مكان قفر ليس فيه أنيس ، ولا سمير ، ولا ساكن . . تركهما امتثالاً لأمر الله سبحانه في هذه الصحراء الشاسعة الواسعة ، التي لا يسكنها أحد ، لأن الله عز وجل يريد أن يعمرها بالسكان ، ويجعل هذه البقعة المباركة مكاناً لبناء بيته العتيق ، ومهوى لأفئدة الملايين من البشر .
وكان إسماعيل طفلاً رضيعاً ، فلما أراد إبراهيم عليه السلام الرجوع ، تبعته ( أم إسماعيل ) فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا المكان الفقير ، الذي لا أنيس فيه ولا سمير!؟ فجعل لا يلتفت إليها مخافة أن تصرفه عن تنفيذ أمر الله ، ثم قالت يا إبراهيم : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذاً لا يضيّعنا الله .
ثم رجعت وانطلق إبراهيم عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنيّة بحيث يراهم ولا يرونه ، استقبل بوجهه جهة البيت ثم دعا بهذه الدعوات المباركات ، التي ذكرها القرآن الكريم { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] .
ثم انطلق يقطع الصحارى والقفار ، حتى عاد إلى وطنه الأول في أرض فلسطين ، بعد أن ترك زوجه وولده في رعاية الله وحفظه .
بقيت ( أم إسماعيل ) وحيدة مع طفلها ترضعه ، وتشرب من ذلك السقاء الذي معها ، وتأكل من الثمر الذي تركه لها إبراهيم عليه السلام ، حتى إذا نفذ ما في السقاء ، ولم يبق عندها ماء ، عطشت عطشاً شديداً ، وعطش ولدها ( إسماعيل ) فجعلت تنظر إليه يتلوّى من شدة العطش ، يكاد يهلكه الظمأ ، فانطلقت تفتش له عن ماء ، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ ولكنها لم تر أحداً ، فهبطت من الصفا ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى وصلت إلى المروة فلم تر أحداً ، فأخذت تهرول وتسعى بين ( الصفا والمروة ) سبع مرات .
قال ابن عباس : « فذلك سعي الناس بينهما » حتى إذا أشرفت على الهلاك ، وتلاشت قواها سمعت صوتاً من بعيد ، فقالت : قد أسمعتَ فأغثْ إن كان عندك غواث ، ثمّ نظرت فإذا هي برجلٍ جميل الطلعة عند مكان زمزم ، فهرولت نحوه تظنه بشراً ، فإذا هو ملك من ملائكة الله ، فضرب بجناحه الأرض فإذا بالماء يفور كأنه نبع دافق ، وكانت ( زمزم ) التي هي آية من آيات الله ، ثم قال لها الملك : لا تخافي الضياع فإن لله هاهنا بيتاً سوف يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإنّ الله لن يضيّع أهله « .
هذه خلاصة تلك الحادثة التاريخية ، والذكرى الخالدة ، التي أراد الله أن يعمر بها بيته العتيق ، ويجعل منها مناسك للحج وشعائر لدينه الإسلامي المجيد .
(1/58)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
[ 5 ] كتمان العلم الشرعي
التحليل اللفظي
{ يَكْتُمُونَ } : الكتمان : الإخفاء والستر ، قال الراغب : الكتمان ستر الحديث يقال كتمته كتماً وكتماناً .
قال الألوسي : « الكتم ترك إظهار الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه ، وتحقيق الداعي إلى إظهاره ، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه ، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه ، واليهود - قاتلهم الله - ارتكبوا كلا الأمرين » .
{ البينات } : الآيات الواضحات الدالة على الحق ، جمع بينة وهي في اللغة الدلالة الواضحة ، عقلية كانت أو حسيّة ، وسمي البيان بياناً لكشفه عن المعنى المقصود .
والمراد بالبينات في الآية : ما أنزله الله في التوراة والإنجيل من أمر محمد عليه الصلاة والسلام .
{ والهدى } : الهدى كلّ ما يدل على الخير ، ويهدي إلى الرشد ، من الهداية وهي الدلالة على الشيء .
قال أبو السعود : المراد بالهدى الآيات الهادية إلى وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه ، عبّر عنها بالمصدر مبالغة .
{ يَلعَنُهُمُ الله } : أي يطردهم ويبعدهم من رحمته ، وأصل اللعن : الإبعاد والطرد قال الشماخ :
مقام الذئب كالرجل اللعين ... أي الطريد .
{ اللاعنون } : قال ابن عباس : اللاعنون كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين .
وقال مجاهد : هم دواب الأرض وهوامّها ، تقول : مُنِعنا القطر بمعاصي بني آدم .
والصحيح أنهم : ( الملائكة ، والأنبياء ، وجميع الناس ) لقوله تعالى : بعد هذه الآية : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] والقرآن يفسّر بعضه بعضاً .
{ تَابُواْ } : أي رجعوا عن الكتمان . وأصل التوبة الرجوعُ والندم على ما صدر من الإنسان .
{ وَأَصْلَحُواْ } : أي أصلحوا ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرّف ، أو أصلحوا سيرتهم وأعمالهم .
{ وَبَيَّنُواْ } : أي أظهروا للناس ما كانوا كتموه من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم أو ما كتموه من دين الله .
{ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } : أي المبالغ في قبول التوبة ، الرحيم بالعباد ، وهما من صيغ المبالغة .
وجه المناسبة
كان أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه ، أو السؤال عنه ، ويتعمدون إخفاء ما ورد من البشارات ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يؤمن به الناس ، كما يخفون بعض الأحكام الشرعية كحكم رجم الزاني ، ويكتمون بعضها بتحريف الكلم عن مواضعه ، والتأويل للآيات على غير معانيها إتباعاً للأهواء ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات ، التي سجّلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة .
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : إن الذين يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات ، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه رسول الله ، ويتعمدون أن يكتموا أمر البشارية به عليه السلام مع أنهم يعلمون حق العلم أوصافه . لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل
(1/59)

{ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] هؤلاء الكاتمون لأوصاف الرسول ، المتلاعبون بأحكام الدين ، المحرفون للتوراة والإنجيل ، يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله ، ويستوجبون اللعنة من الملائكة والناس أجمعين ، إلاّ من تاب عن كتمانه ، وأصلح أمره بالإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيّن ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ، فلم يكتمه ولم يُخفه ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته ، وهو جل ثناؤه كثير التوبة على العباد ، يتغمدهم برحمته ، ويشملهم بعفوه ، ويصفح عمّا فرط منهم من السيئات .
سبب النزول
1 - نزلت هذه الآية الكريمة من أهل الكتاب حين سئلوا عمّا جاء في كتبهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه ، ولم يخبروا عنه حسداً وبغضاً . . روي السيوطي في « الدر المنثور » عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ ( معاذ بن جبل ) وبعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبرونهم ، فأنزل الله فيهم { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى { فِي الكتاب } المراد بالكتاب الكتب التي أنزلها الله لهداية البشرية ، ف ( أل ) تكون ( للجنس ) مثلها في قوله تعالى : { والعصر* إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْر } [ العصر : 1-2 ] وقيل : المراد بالكتاب التوراةُ والإنجيل ، فتكون ( أل ) للعهد الذهني .
اللطيفة الثانية : عبّر باسم الإشارة البعيد { أولئك يَلعَنُهُمُ الله } تنبيهاً على قبح عملهم وغاية بعده في الإجرام ، والإفساد ، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً لخطورته ، وأتى بالفعل المضارع المفيد للتجدد لتجدد مقتضيه ، وأبرز اسم الجلالة { يَلعَنُهُمُ الله } على سبيل الإلتفات لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، إذ لو جرى على نسق الكلام المتقدم لقال ( أولئك نلعنهم ) .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } ضربٌ من البديع يسمى ( الجناس المغاير ) وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً ، والأخرى فعلاً كما في هذه الآية .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } جاء اللفظان بصيغة المبالغة ، لأن ( فعّال ) و ( فعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك :
فعّال أو مفعال أو فعول ... في كثرةٍ عن فاعل بديل
والمعنى : كثير التوبة ، واسع المغفرة والرحمة .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل هذه الآية خاصة بأحبار اليهود والنصارى؟
الآية الكريمة نزلت في أهل الكتاب من أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ، الذين كتموا صفات النبي عليه الصلاة والسلام كما دلّ على ذلك سبب النزول ، ولكنها تشمل كل كاتم لآيات الله ، مخفٍ لأحكام الشريعة ، لأن العبرة - كما يقول علماء الأصول - بعموم اللفظ لا ( بخصوص السبب ) ، والآيات وردت عامة بصيغة اسم الموصول { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } لذلك تعم .
قال أبو حيان : « والأظهر عموم الآية في الكاتمين ، وفي الناس ، وفي الكتاب ، وإن نزلت على سبب خاص ، فهي تتناول كلّ من كتم علماً من دين الله ، يُحتاج إلى بثه ونشره .
(1/60)

وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : « من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار » وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم ، وهم العرب الفُصح ، المرجوع إليهم في فهم القرآن ، كما روي عن أبي هريرة : « لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث ثم تلا قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } » الآية .
الحكم الثاني : هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين؟
استدل العلماء من قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات . . . } الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن ، أو تعليم العلوم الدينية ، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه ، ولا يستحق الإنسان أجراً على عملٍ يلزمه أداؤه ، كما لا يستحق الأجر على الصلاة ، لأنها قربة وعبادة ، لذلك يحرم أخذ الأجرة على تعليمها .
غير أن المتأخرين من العلماء لما رأوا تهاون الناس ، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني ، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا ، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم كتاب الله ، وسائر العلوم الدينية ، فينعدم حفظة القرآن ، وتضيع العلوم ، لذلك أباحوا أخذ الأجور ، بل زعم بعضهم أنه واجب للحفاظ على علوم الدين ، وما هذه الأوقاف والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لغرض صيانة القرآن وعلوم الشريعة ، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] غير أننا نجد المتقدمين من الفقهاء متفقين على حرمة أخذ الأجرة على علوم الدين . لأن العلم عبادة وأخذ الأجرة على العبادة غير جائز .
قال أبو بكر الجصاص : « وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم ، وترك كتمانه ، فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه ، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ، ألا ترى أنه لا يجوز استحقاق الأجر على الإسلام؟!
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً ، لأن قوله تعالى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه ، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل ، قال عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنيا أو أصبت بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن ، وسائر علوم الدين » .
وقال الفخر الرازي : « احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم ، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم ، كان أخذ الأجرة أخذاً على أداء الواجب ، وأنه غير جائز ، وقوله تعالى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً }
(1/61)

[ البقرة : 174 ] مانعٌ أخذ البدل عليه من جميع الوجوه « .
أقول : هذه النظرة الفقهية الدقيقة تسمو بالعلم إلى درجة العبادة ، وهي نظرة جديرة بالتقدير ، ولكنّ علوم الشريعة تكاد تضيع مع الأخذ بفتوى المتأخرين ، من إباحة أخذ الأجرة على التعليم ، فكيف لو أخذنا بفتوى المتقدمين ومنعنا أخذ الرواتب والأجور؟ إذن لم يبق من يعلّم أو يتعلم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - اليهود والنصارى كتموا صفات النبي لصدّ الناس عن الإيمان به .
2 - كتم العلم خيانة للأمانة التي جعلها الله في أعناق العلماء .
3 - يجب نشر العلم وتبليغه إلى الناس لتعمّ الهداية جميع البشر .
4 - من كتم شيئاً من أحكام الشرع الحنيف استحق اللعنة المؤبدة .
5 - لا تكفي التوبة وحدها بل لا بدّ من إصلاح السيرة ، وإخلاص العمل .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشرائع السماوية ، لهداية البشرية ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد أمرنا الإسلام بتعليم الجاهل ، وهداية الضال ، ودعوة الناس إلى الله ، حتى تقوم الحجة على الناس ، ولا يبقى لأحدٍ عذر عند الله يوم القيامة .
ولمّا كان ما أنزله الله من البينات والهدى ، لم ينزل إلاّ لخير الناس ، وهداية البشرية إلى الطريق المستقيم ، وكان كتم العلم وعدم تبليغه إلى الناس فيه تعطيل لوظيفة الرسالة ، التي بعث الله بها رسله وأنبياءه ، وفيه خيانة للأمانة التي ائتمن الله عليها العلماء { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ . . . } [ آل عمران : 187 ] لذلك فقد شدّد الله النكير على من كتم شيئاً ممّا يحتاج الناس إليه ، وخاصة من أمور الدين ، وأوعد بالعذاب الأليم لكل من كتم آيات الله ، أو أخفى أحكام الشريعة ، لأن الكتمان جرم عظيم ، يستحق مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة الله عز وجل .
وفي هذا دلالة واضحة ، على عناية الإسلام العظيمة ، بنشر العلم والثقافة ، لتبليغ دعوة الله إلى الناس وانتشال الأمة من براثن الجهل والضلالة ، فنشر العلم عبادة ، وكتمه جناية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : » بلّغوا عين ولو آية « وقال صلوات الله وسلامه عليه : » من سُئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار « .
(1/62)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
[ 6 ] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث
التحليل اللفظي
{ واشكروا للَّهِ } : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم ويكون على وجهين :
أحدهما : الاعتراف بالنعمة وذلك بالثناء على المنعم { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .
والثاني : صرف النعمة فيما يرضي الله وذلك باستعمال السمع والبصر وسائر الحواس فيما خلقت له .
{ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } : الإهلال رفع الصوت ، يقال : أهلّ بكذا أي رفع صوته ، ومنه إهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة ، وأهلّ الحاج رفع صوته بالتلبية قال الشاعر :
يُهلّ بالفرقد ركبانُها ... كما يُهلْ الراكبُ المعتمر
وأصل الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل في رفع الصوت مطلقاً ، وكان المشركون إذا ذبحوا ذكروا اسم اللات والعزّى ورفعوا بذلك أصواتهم .
والمعنى : حرّم عليكم ما ذبح للأصنام والطواغيت ، وذكر عليه اسم غير الله . قال الزمخشري : وذلك قول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزّى .
{ اضطر } : أي حلّت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرّم الله .
قال القرطبي : فيه إضمار أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها فهو ( افتعل ) من الضرورة وأصله ( اضطرر ) .
{ بَاغٍ } : الباغي في اللغة : الطالب لخير أو لشر ومنه حديث « يا باغي الخير أقبل » وخُصّ هنا بطالب الشر .
قال الزجاج : البغي قصدُ الفساد ، يقال : بغى الجرح إذا ترامى للفساد . وبغت المرأة إذا فجرت .
{ عَادٍ } : اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد .
والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته ، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد غيرها .
قال الطبري : « وأولى هذه الأقوال قول من قال : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ } بأكله ما حرم عليه من أكله { وَلاَ عَادٍ } في أكله وله في غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى » .
المعنى الإجمالي
يأمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن يتمتعوا في هذه الحياة بما أحله لهم من الكسب الحلال ، والرزق الطيب ، والمتاع النافع ، وأن يأكلوا من لذائذ المآكل التي أباحها لهم ، ورزقهم إيّاها بشرط أن تكون من الحلال الطيب ، وأن يشكروا الله على نعمه التي أسبغها عليهم ، إن كانوا حقاً صادقين في دعوى الإيمان ، عابدين الله منقادين لحكمه ، مطيعين لأمره ، لا يعبدون الأهواء والشهوات .
ثمّ بيّن تعالى ما حرّمه عليهم من الخبائث المستكرهة ، التي تنفر منها الطباع السليمة ، أو ممّا فيه ضرر واضح للبدن ، فذكر تعالى أنه إنما حرّم عليهم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وسائر الخبائث ، كما حرّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة ، وكلّ ما ذُكر عليه اسم غير الله ، لكنّ إذا اضطر الإنسان ، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، غير باعٍ بأكله ما حرم الله عليه ، فليس عليه ذنب أو مخالفة ولا متجاوز قدر الضرورة ، لأن الله غفور رحيم ، يغفر للمضطر ما صدر عن غير إرادة ، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج .
(1/63)

وجه الارتباط بالآيات السابقة
بيّن تعالى في الآيات السابقة حال الذين يتخذون الأنداد من دون الله يحبونهم كمحبة الله ، وأشار إلى أن سبب ذلك هو حب حطام الدنيا ، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه ، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض ، إذْ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها ، بشرط أن تكون حلالاً طيباً ، { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } [ البقرة : 168 ] وبيّن سوء حال الكافرين المقلدين ، الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ، لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ، ثمّ وجه الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، وأجدر بالعلم ، وأحرى بالاهتداء .
وجوه القراءات
1- قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } قرأ الجمهور بالبناء للفاعل { حَرَّمَ } أي حرّم الله و { الميتة } بالتخفيف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالبناء للمفعول والتشديد ( إنما حرّم عليكم الميّتَة ) .
قال القرطبي : التشديدُ والتخفيف في ( ميّت ) و ( مَيْت ) لغتان ، وقد جمعا في قول الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميْتٍ ... إنما المْيتُ ميّتُ الأحياء
والمشهور عند أهل اللغة : ( الميْت ) بالتخفيف من مات فعلاً ، وبالتشديد ( ميّت ) من سيموت كما في قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] إنك ستموت وإنهم سيموتون .
2 - قرأ الجمهور ( فمن اضطُرّ ) بضم الطاء ، وقرأ أبو جعفر ( فمن اضطِرّ ) بكسر الطاء ، وأدغم ابن محيص الضاد في الطاء ( فمن اطرّ ) .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله .
2 - قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ } إنمّا مكفوفة عن العمل وهي حرف واحد تفيد الحصر و ( الميتة ) مفعول ل ( حرّم ) والمعنى : ما حرّم عليكم إلا الميتة . . . الخ .
3 - قوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ } غيرَ منصوب على الحال ( ولا عاد ) معطوف على باغٍ وتقديره لا باغياً ولا عادياً .
قال القرطبي : ( غيرَ ) نصبٌ على الحال ، وقيل : على الاستثناء ، وإذا رأيت ( غير ) يصلح في موضعها ( في ) فهي حال ، وإذا صلح موضعها ( إلاّ ) فهي استثناء ، فقس عليه ، و ( باغ ) أصله ( باغيٌ ) ثقلت الضمة على الياء فسكنّت ، والتنوين ساكن ، فحذفت الياء ، والكسرةُ دالة عليها « .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المرادُ من الطيبات الرزقُ الحلال ، فكل ما أحلّه الله فهو طيّب ، وكلّ ما حرّمه فهو خبيث ، قال عمر بن عبد العزيز : المراد ( طيبُ الكسب لا طيبُ الطعام ) . ويؤيده الحديث الشريف : » إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعثَ أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنّى يُستجابُ له؟ «
(1/64)

فهذا هو بيان الطيّب من الرزق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عطر بعد عروس .
اللطيفة الثانية : قال أبو حيان : لمّا أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيّب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بيّن لهم ما حرّم عليهم لكونه أقل ، فلما بيّن ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر ، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عما يلبس المحرم فقال : « لا يلبس القميص ولا السروال » فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ « .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { واشكروا للَّهِ } إلتفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة ، إذ لو جرى على الأسلوب الأول لقال : » واشكرونا « وفائدة هذا الالتفات تربية المهابة والروعة في القلوب .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير } هو على حذف مضاف أي أكل الميتة وأكل لحم الخنزير مثل قوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهل القرية .
قال الألوسي : » وإضافة الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق - وأوكده « .
وقال أبو السعود : » وإنما خصَّ لحم الخنزير مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان ، وسائر أجزائه بمنزلة التابع له « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل المحرّم في آية الميتة الأكلُ أم الانتفاع؟
ورد التحريم في هذه الآية مسنداً إلى أعيان الميتة والدم ، وقد اختلف الفقهاء هل المحرّم الأكل فقط ، أم يحرم سائر وجوه الانتفاع ، لأنه لما حرم الأكل حرم البيع والانتفاع بشيء منها لأنها ميتة ، إلا ما استثناه الدليل ، وذهب بعض العلماء إلى أن المحرم إنما هو الأكل فقط بدليل قوله تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وبدليل ما بعده في قوله تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ } أي اضطر إلى الأكل .
قال الجصاص : » والتحريم يتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يطعمها الكلاب والجوارح ، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها ، وقد حرّم الله الميتة تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص بدليل يجب التسليم له « .
الحكم الثاني : ما هو حكم الميتة من السمك والجراد؟
تضمنت الآية تحريم ( الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أُهّل لغير الله ) .
فأمّا الميتة فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل ، أو مقتولاً بغير ذكاة شرعية ، وكان العرب في الجاهلية يستبيحون الميتة ، فلما حرمها الله تعالى جادلوا في فلك المؤمنين وقالوا : لا تأكلون مما قتله الله ، وتأكلون مما تذبحون بأيديكم!! فأنزل الله في سورة الأنعام : [ 121 ]
(1/65)

{ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } فالميتة حرام بالنص القاطع ، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة منها الأحاديث التالية :
أ - قوله صلى الله عليه وسلم : « أُحِلّ لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال » .
ب - وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : « هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته » .
ج - وفي « الصحيحين » عن جابر بن عبد الله أنه خرج مع ( أبي عبيدة بن الجراح ) يتلقى عيراً لقريش ، وزودنا جراباً من تمر ، فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى ( العنبر ) قال أبو عبيدة : ميتةٌ ، ثم قال : بل نحن رُسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اضطررتم فكلوا ، قال : فأقمنا عليه شهراً حتى سمنّا . . وذكر الحديث قال : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : هو رزقٌ أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله .
د - وحديث ابن أبي أوفى « غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد » .
فقد خصَّص جمهور الفقهاء من الآية ميتة البحر للأحاديث السابقة الذكر ، كما أباحوا أكل الجراد ، إلاّ أن الحنفية حرموا الطافي من السمك وأحلّوا ما جزر عنه البحر لحديث « ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه » .
إلاّ أن المالكية أباحوا أكل ميتة السمك ، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة : لأنه لم يصح فيه عندهم شيء .
قال القرطبي : « وأكثر الفقهاء يجيزون أكل جميع دوابّ البحر حيها وميتها ، وهو مذهب مالك ، وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزيراً . قال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراماً » .
الحكم الثالث : ما هي ذكاة الجنين بعد ذبح أمه؟
اختلف العلماء في الجنين الذي ذبحت أمه وخرج ميتاً هل يؤكل أم لا؟
ذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح ، لأنه ميتة وقد قال تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } .
وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد إلى أنه يؤكل ، لأنه مذكى بذكاة أمه ، واستدلوا بحديث « ذكاة الجنين ذكاة أمه » .
وقال مالك رحمه الله : إنْ تمّ خلقُه ونبت شعره أُكل وإلاّ فلا .
قال القرطبي : « إن الجنين إذا خرج بعد الذبح ميتاً يؤكل لأنه جرى مجرى العضو من أعضائها » .
(1/66)

وقال من ينتصر لأبي حنيفة : إن الحديث يحتمل معنى آخر هو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه على حد قول القائل قولي قولُك ، ومذهبي مذهبك أي كقولك وكمذهبك وعلى حد قول الشاعر :
فعيناكِ عيناها وجيدُك جيدُها ... سوى أنّ عظم الساق منك دقيق
الحكم الرابع : هل يباح الانتفاع بالميتة في غير الأكل؟
ذهب عطاء إلى أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة وجلدها ، كطلاء السفن ودبغ الجلود ، وحجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل خاصة ، ويدل عليه قوله تعالى : { مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [ الأنعام : 145 ] .
وذهب الجمهور : إلى تحريمه واستدلوا بالآية الكريمة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] أي الانتفاع بها بأكلٍ أو غيره ، فجعلوا الفعل المقدر هو الانتفاع ، واستدلوا كذلك بقوله عليه السلام : « لعن الله اليهود ، حُرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها » فهذا الحديث يدل على أن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه ، فلا يجوز البيع ولا الانتفاع بشيء من الميتة إلا ما ورد به النص .
الحكم الخامس : ما هو حكم الدم الذي يبقى في العروق واللحم؟
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس ، لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد ذكر تعالى الدم هاهنا مطلقاً وقيّده في الأنعام بقوله : { أَو دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] وحمل العلماء المطلق على المقيد ، ولم يحرموا إلا ما كان مسفوحاً ، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( لولا أنّ الله قال أو دماً مسفوحاً لتتبّع الناس ما في العروق ) فما خالط اللحم غير محرم بإجماع ، وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل دماً .
قال القرطبي : « وأمّا الدم فمحرّم ما لم تعم به البلوى ، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم والعروق ، وروي عن عائشة أنها قالت : » كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم ، فنأكل ولا ننكره « .
الحكم السادس : ماذا يحرم من الخنزير؟
نصت الآية على تحريم لحم الخنزير ، وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه لا شحمه ، لأن الله قال : { وَلَحْمَ الخنزير } وذهب الجمهور إلى أنّ شحمه حرام أيضاً ، لأن اللحم يشمل الشحم ، وهو الصحيح ، وإنما خصّ الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ، سواء ذُكّى ذكاةً شرعية أو لم يُذكّ .
وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير .
فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز الخرازة به .
وقال الشافعي : لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير .
وقال أبو يوسف : أكره الخرز به .
قال القرطبي : » لا خلاف أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به ، لأن الخرازة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ، لا نعلم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده ، وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه « .
(1/67)

وقد اختلف أهل العلم في خنزير الماء فقال أبو حنيفة : لا يؤكل لعموم الآية .
وقال مالك والشافعي والأوزاعي : لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر ، وتفصيل الأدلة ينظر في كتب الفروع .
الحكم السابع : ما الذي يباح للمضطر من الميتة؟
اختلف العلماء في المضطر ، أيأكل من الميتة حتى يشبع ، أم يأكل على قدر سدّ الرمق؟
ذهب مالك إلى الأول ، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة .
وذهب الجمهور : إلى الثاني ، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدرها ، وسبب الخلاف يرجع إلى مفهوم قوله تعالى { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فالجمهور فسروا البغي بالأكل من الميتة لغير حاجة ، والعاد هو المعتدي حد الضرورة .
ومالك فسره بالبغي والعدوان على الإمام ، ولكل وجهة والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - إباحة الأكل من الطيبات للمؤمنين بشرط أن يكون من الكسب الحلال .
2 - شكر الله واجب على المؤمنين لنعم الله التي لا تُعد ولا تحصى .
3 - الإخلاص في العبادة لله من صفات المؤمنين الصادقين .
4 - الله جل وعلا حرّم على عباده ( الخبائث ) دون ( الطيبات ) .
5 - حالة الاضطرار تبيح للإنسان الأكل ممّا حرمه الله كالميتة وغيرها .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أباح الباري جل وعلا لعباده المؤمنين تناول الطيبات ، وحرّم عليهم الخبائث كالميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، ونهاهم عن تعذيب النفس وحرمانها من اللذائذ الدنيوية ، فإن المشركين وأهل الكتاب حرَّموا على أنفسهم أشياء لم يحرمها الله تعالى كالبحيرة والسائبة .
وكان المذهب الشائع عند النصارى أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، تعذيب النفس واحتقارها ، وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة ، واعتقاد أنه لا حياة ( للروح ) إلا بتعذيب الجسد ، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء ، وليس لها أثر في شريعة الله . وقد تفضل الله على هذه الأمة بجعلها أمة وسطاً ، تعطي الجسد حقه ، والروح حقها ، فأحلّ لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث ، وأمرنا بالشكر عليها ، ولم يجعلنا ( جثمانيين ) خلّصاً كالأنعام ، ولا ( روحانيين ) خلصاً كالملائكة ، بل جعلنا أناسيّ كملة بهذه الشيعة المعتدلة .
وأما الحكمة من تحريم الميتة فلما فيها من الضرر ، لأنها إمّا أن تكون ماتت لمرض وعلة ، قد أفسد بدنها وجعلها غير صالحة للبقاء والحياة ، وإما أن يكون الموت لسببٍ طارئ .
فأما الأول فقد خبث لحمها ، وتلوث بجراثيم المرض ، فيخشى من عدواها ، ونقل مرضها إلى الآكلين .
وأما الثانية : فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارة في جسمها .
وأما الدم المسفوح : فلقذارته وضرره أيضاً ، وقد أثبت الطب الحديث أنّ الدم ضار كالميتة وأنه تتجمع فيه ( الميكروبات ) والمواد الضارة .
وأما لحم الخنزير : فلأن غذاءه من القاذورات ، والنجاسات فيقذر لذلك ، ولأن فيه ضرراً فقد اكتشف الأطباء أن لحم الخزير يحمل جراثيم شديدة الفتك ، كما أن المتغذي من لحم الخنزير يكتسب من طباع ما يأكله ، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة ، وأشهرها عدم الغيرة والعفة .
(1/68)

يقول شهيد الإسلام سيد قطب عليه رحمة الله في تفسيره « الظلال » ما نصه : « والخنزير بذاته منفرّ للطبع النظيف القويم ، ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ، ليكتشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيّسة ) .
ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان بويضاتها مصدر خطر ، لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توفرها وسائل الطهو الحديثة ، وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة ، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حلّلت ، وهي من لدن حكيم خبير؟!
أمّا ما أهل به لغير الله ، فهو محرم لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله ، محرم لعلة روحية ، لسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك » .
(1/69)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
[ 7 ] في القصاص حياة النفوس
التحليل اللفظي
{ كُتِبَ } : قال الفراء { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } معناه في كل القرآن : فرض عليكم قال الشاعر :
كُتب القتلُ والقتال علينا ... وعلى الغانياتِ جرّ الذيول
قال الطبري : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } بمعنى فُرض عليكم القصاصُ ، وهو في أشعارهم مستفيض ، وفي كلامهم موجود ، وهو أكثر من أن يحصى .
{ القصاص } : أن يفعل به مثل فعله من قولهم : اقتصّ أثر فلان إذا فعل مثل فعله .
قال الراغب : القصاص مأخوذ من القصّ وهو تتبع الأثر قال تعالى : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] والقصاصُ : تتبعُ الدم بالقَوَد قال تعالى : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] .
قال في اللسان : قصصتُ الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] أي اتبعي أثره ، والقصاصُ : القَوَد وهو القتل بالقتل قال الشاعر :
فرمنا القصاصَ وكان القصا ... صُ حكماً وعدلاً على المسلمينا
{ القتلى } : جمع قتيل ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، كصرعى جمع صريع ، وجرحى جمع جريح .
قال في « اللسان » : ورجلٌ قتيل أي مقتول ، وامرأة قتيل أي مقتولة ، فإذا قلت : ( قتيلة بني فلان ) قلت بالهاء .
وقال الطبري : وإنما يجمع ( فعيل ) على ( فَعْلى ) إذا كان وصفاً دالاً على الزمانة بحيث لا يقدر معه صاحبه على البُراح من موضعه وأصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت ، ولكن إذا اعتبر بفعل الشخص يقال : قتلٌ ، وإذا عتبر بفوت الحياة يقال : موتٌ ، قال تعالى : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] .
{ عُفِيَ } : العفو معناه الصفح ، والإسقاط ، تقول : عفوت عنه أي صفحتُ عنه ومنه قوله تعالى : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } [ المائدة : 95 ] وقوله : { واعف عَنَّا } [ البقرة : 286 ] وعفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق أي أسقطتها عنكم .
والمعنى : فمن تُرِك له من جهة أخيه شيءٌ أي ترك له القتل ، ورُضي منه بالدية .
{ فاتباع بالمعروف } : مطالبته بالمعروف ، أي يطالبه وليّ القتيل بالرفق والمعروف ، ويؤدي إليه القاتل الدية بإحسان ، بدون مماطلة أو بخس أو إساءة في الأداء .
{ فَمَنِ اعتدى } : أي ظلم فقتل القاتل بعد أخذ الدية فله عند الله عذاب أليم .
{ الألباب } : العقول جمع لب ، مأخوذ من لب النخلة .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم أن تقتصوا للقتيل من قاتله ، ولا يبغيّن بعضكم على بعض ، فإذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوا فقط ، وإذا قتل العبدُ العبدَ فاقتلوه به ، وإذا قتلت الأنثى الأنثى فاقتلوها بها مثلاً بمثل بالعدل والمساواة ، ودعوا الظلم الذي كان بينكم فلا تقتلوا أحراراً ، ولا بالعبد حراً ، ولا بالأنثى رجلاً ، فإن ذلك ظلم وعدوان ، واستعلاء وطغيان ، فمن تُرك له شيء من القصاص إلى الدية ، وعفا عنه وليّ القتيل فلم يقتص منه وقبل منه الدية ، فليحسن الطالب في الطلب من غير إرهاقٍ ولا تعنيف ، ولْيحسن الدافع في الأداء من غير مماطلة ولا تسويف ، ذلك الذي شرعته لكم - أيها المؤمنون - من العفو إلى الدية ، تخفيف من ربكم ورحمة ، خفَّف به عنكم ليظهر فضله عليكم ، على عكس من سبقكم من اليهود حيث لم يكن في شرعهم إلا القصاص ، فمن تجاوز منكم بعد أخذ الدية وقتل القاتل ، فله عذاب أليم عند الله ، لأنه ارتكب جريمة بنقضه العهد وغدره بالقاتل بعد أن أعطاه الأمان ، وأخذ منه المال .
(1/70)

ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت لكم من القصاص حياة وأي حياة ، لأنه من علم أن من قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل ، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله ، وبذلك تصان الدماء ، وتحفظ النفوس ، ويأمن الناس على أرواحهم ، ذلك هو شرع الله الحكيم ، ودينه القويم ، الذي به حياة الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
سبب النزول
أ - روي في سبب نزول هذه الآية عن قتادة أنَّ أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعة للشيطان ، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة ، فقتل عبدُهم عبدَ آخرين ، قالوا : لن نقتل به إلا حراً ، تعزّزاً لفضلهم على غيرهم ، وإذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا : لن نقتل بها إلا رجلاً ، فأنزل الله { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } .
ب - وروي عن ( سعيد بن جبير ) أن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتلٌ وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى . . . } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أكرم الله هذه الأمة المحمدية فشرع لهم قبول الدية في القصاص ، ولم يكن هذا في شريعة التوراة ، روي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية ، فقال الله لهذه الأمة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } إلى قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن تقبل الدية في العمد { فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يتبع الطالب بالمعروف ، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } ممّا كتب على من كان قبلكم { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } قتل بعد قبول الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة } الآية .
قال الزجاج : » إذا علم الرجل أنه إن قَتَل ، أمسك عن القتل ، فكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه ، لأنه من أجل القصاص أمسك . وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال :
أبلغ أبا مالك عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام
(1/71)

يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح العتاب ما بينهم « .
اللطيفة الثالثة : بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص ، بأسلوب لا يُسامى ، وعبارةٍ لا تُحاكى ، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن .
ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده ، وهو ( الحياة ) في ( الإماتة ) التي هي القصاص ، وعرّف القصاص ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب في حياة البشرية . ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز ، وقد اشتهر عن بعض بلغاء العرب كلمة في معناها ، كانوا يعجبون من إيجازها وبلاغتها ، ويظنون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها وهي قولهم : ( القتل أنفى للقتل ) وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان ، لأنها قيلت قبلها أقوال المشاهير البلغاء كقولهم : ( قتل البعض إحياء للجميع ) وقولهم : ( أكثروا القتل ليقلّ القتل ) وأجمعوا على أن كلمة ( القتل أنفى للقتل ) أبلغ هذه العبارات على الإطلاق .
قال الإمام الفخر : » وبيان التفاوت بين النظم الكريم وبين كلام العرب من وجوه عدة :
الأول : أن النظم الكريم ( في القصاص حياة ) أشد اختصاراً من قولهم ( القتلُ أنفى للقتل ) لأن حروفها أقل .
الثاني : أن قولهم ( القتل أنفى للقتل ) ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال .
الثالث : أنّ كلامهم فيه تكرار للفظ القتل ، وليس في الآية الكريمة هذا التكرار .
الرابع : أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل ، والآية أجمع لأنها تفيد الردع عن القتل والجراح .
الخامس : أن القتل ظلماً قتلٌ وليس نافياً للقتل ، بل هو سبب لزيادة القتل ، فظاهر قولهم باطل ، وبذلك يظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يقتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي؟
اختلف الفقهاء في الحر إذا قتل عبداً ، والمسلم إذا قتل ذمياً هل يقتلان بهما أم لا؟
فذهب الجمهور : ( المالكية والشافعية والحنابلة ) إلى أن الحر لا يقتل بالعبد ، ولا المسلم بالذمي .
وذهب الحنفية : إلى أن الحر يقتل بالعبد ، وكذلك المسلم يقتل بالذمي .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على مذهبهم بالكتاب ، والسنة ، والمعقول .
أ - أما الكتاب فقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } فقد أوجب الله المساواة ، ثمّ بيّن هذه المساواة بقوله : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } .
فالحرّ يساويه الحر ، والعبد يساويه العبد ، والأنثى تساويها الأنثى ، فكأنه تعالى يقول : اقتلوا القاتل إذا كان مساوياً للمقتول ، قالوا : ولا مساواة بين الحر والعبد فلا يقتل به ، وكذلك لا مساواة بين المسلم والكافر فلا يقتل به .
ب - وأما السنة : فما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُقتل مسلم بكافر » .
(1/72)

ج - وأما المعقول : فقالوا : إن العبد كالسِّلعة والمتاع بسبب الرق الذي هو من آثار الكفر ، والكافر كالدابة بسبب الكفر الذي طغى عليه ، وقد قال تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنفال : 55 ] فكيف يُساوى المؤمن بالكافر ، وكيف يقتل به؟ .
أدلة الحنفية :
واستدل الحنفية على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى . . . } إنّ الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية ، وهي عامة تعم كل قاتل سواءً كان حراً أو عبداً ، مسلماً أو ذمياً ، وأما قوله تعالى : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد . . . } إلخ فإنما هو لإبطال الظلم الذي كان عليه أهل الجاهلية ، حيث كانوا يقتلون بالحر أحراراً ، وبالعبد حراً ، وبالأنثى يقتلون الرجل تعدياً وطغياناً ، فأبطل الله ما كان من الظلم ، وأكد القصاص على القاتل دون غيره كما فهم ذلك من سبب النزول وقد تقدم .
ثانياً : واستدلوا بقوله تعالى في سورة [ المائدة : 45 ] : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس . . . } قالوا : وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين ، وشرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد ناسخ ، ولم نجد ناسخاً .
ثالثاً : واستدلوا كذلك بقوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } [ الإسراء : 33 ] فإن هذه الآية انتظمت جميع المقتولين ظلماً ، عبيداً كانوا أو أحراراً ، مسلمين أو ذمّيين ، وجُعل لوليهم سلطان وهو ( القود ) أي القصاص .
رابعاً : واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على من سواهم » فيكن العبد مساوياً للحر .
خامساً : واستدلوا بحديث : « من قتل عبده قتلناه ، ومن جدعه جدعناه ، ومن خصاه خصيناه » .
قالوا : فهذا نص على أن الحر يقتل بالعبد ، لأن الإسلام لم يفرّق بين حر وعبد .
سادساً : واستدلوا بما رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال : » أنا أكرم مَن وفّى بذمته « » .
سابعاً : قالوا : ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه ، فوجب أن يقاد منه ، لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله .
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين : عرضناها باختصار ، وسبب الخلاف في الحقيقة يرجع إلى اختلاف العلماء في فهم الآية ، فالحنفية يقولون : إن صدر الآية مكتف بنفسه ، وقد تم الكلام عند قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } وسائر الأئمة يقولون : لا يتم الكلام هاهنا ، وإنما يتم عند قوله : { والأنثى بالأنثى } فهو تفسير له وتتميم لمعناه ، والآية وردت لبيان التنويع والتقسيم .
وقد اعترض الحنفية على الجمهور بأنه ينبغي ألا يُقتل الرجل إذا قتل أنثى؟ وكذلك العبد إذا قتل حراً؟ مع أنهم يقولون أنه يقتل العبد بالحر ، والرجل بالمرأة!!
أجاب الجمهور : بأن ظاهر الآية يفيد ألا يقتل العبد بالحر ، ولكننا نظرنا إلى المعنى فرأينا أن العبد يُقتل بالعبد ، فأولى أن يقتل بالحر ، وأما قتل الرجل بالمرأة فذلك ثابت بالإجماع ، وهو دليل آخر خصّص الآية الكريمة ولولا الإجماع لقلنا لا يقتل الذكر بالأنثى .
(1/73)

يقول فضيلة الشيخ السايس في كتابة « تفسير آيات الأحكام » ما نصه :
« والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة ، لأن هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان ( المساواة ) المعتبرة ، قد أخرجوا منه طردا وعكساً الأنثى بالرجل ، فذهبوا إلى أن الرجلُ يقتل بالأنثى ، والأنثى تقتل بالرجل ، وذهبوا إلى أنّ الحر لا يقتل بالعبد ، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر ، فهذا كله يُضعف مسلكهم في الآية . أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف ، وحينئذٍ يكون العبد مساوياً للحر ، ويكون المسلم مساوياً للذمي في الحرمة ، محقون الدم على التأييد » .
الترجيح :
أقول : مذهب أبي حنيفة في قتل الحر بالعبد معقول المعنى ، مؤيد « من قتل عبده قتلناه . . . » فالإسلام قد ساوى بين الأحرار والعبيد في الدماء ، فحرمة العبد كحرمة الحر ، ونفس العبد كنفس الحر ، ولهذا يقتل به .
أما قتل المؤمن بالكافر : ففي النفس من قول أبي حنيفة شيء ، والراجح فيه رأي الجمهور لا سيما بعد أن تأكد بالدليل الثابت « لا يُقتل مسلم بكافر » أخرجه البخاري .
وكما يقول ابن كثير رحمه الله : لا يصح حديث ولا تأويلٌ يخالف هذا .
ثمّ كيف يتساوى المؤمن مع الكافر ، مع أن الكافر شرّ عند الله من الدابة؟ والمؤمن طيّب طاهر والله تعالى يقول : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ويقول : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] ، فكيف نقتل مؤمناً طاهراً بمشرك نجس؟! فالراجح إن شاء الله في هذه المسألة قول الجمهور . وقد رأيت في بعض مراجعاتي قصة لطيفة وهي أن ( أبا يوسف ) القاضي من تلامذة الإمام أبي حنيفة ، رفعت إليه قضية ، تتلخص في أن مسلماً قتل ذمياً كافراً ، فحكم عليه أبو يوسف بالقصاص ، فبينما هو جالس ذات يوم ، إذ جاءه رجل برقعةٍ فألقاها إليه ثم خرج ، فإذا فيها هذه الأبيات :
يا قاتلَ المسلم بالكافرِ ... جرتَ وما العادلُ كالجائر
يا مَنْ ببغدادَ وأطرافِها ... من علماء الناسِ أو شاعرِ
استرجُعوا وابكُوا على دينكم ... واصطبروا فالأجرُ للصابر
جار على الدين أبو يوسف ... بقتله المؤمن بالكافر
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر ، وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد : تدارك هذا الأمر لئلا تكون فتنة . . فدعا أبو يوسف أولياء القتيل وطالبهم بالبينة على صحة الذمة وثبوتها ، فلم يستطيعوا أن يثبتوا فأسقط القود وأمر بدفع الدية .
مناظرة لطيفة
ذكر العلامة أبو بكر ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » هذه المناظرة اللطيفة فقال :
« ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، فقيهٌ من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف ب ( الزوزني ) زائراً للخليل صلوات الله عليه ، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة - طهّرها الله - معه ، وشهد علماء البلد ، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر فقال : يُقتل به قصاصاً ، فطولب بالدليل فقال : الدليل عليه قوله تعالى { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } وهذا عامٌ في كل قتيل .
(1/74)

فانتدب معه في الكلام فقيه الشافعية وإمامهم بها ( عطاء المقدسي ) وقال : ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الله سبحانه قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } فشرط المساواة في المجازاة ، ولا مساواة بين المسلم والكافر ، فإنّ الكفر حطّ منزلته ، ووضع مرتبته .
الثاني : أنّ الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها ، وجعل بيانها عند تمامها فقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } فإذا نقص العبد عن الحر بالرق - وهو من آثار الكفر - فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر .
الثالث : أن الله سبحانه وتعالى قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر ، فدل على عدم دخوله في هذا القول .
فقال الزوزني : دليل صحيح ، وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء .
أما قولك : إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة فكذلك أقول ، وأمّا دعواك أنّ المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص معدومة فغير صحيح ، فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص ، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد ، فإنّ الذمي محقون الدم ، والمسلم محقون الدم ، وكلاهما في دار الإسلام ، والذي يحقّق ذلك أن المسلم يُقطع بسرقة مال الذمي ، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم ، فدلّ على مساواته لدمه ، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه .
وأما قولك : إنّ الله ربط آخر الآية بأولها فغير مسلّم ، فإنّ أول الآية عامٌ ، وآخرها خاصٌ ، وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها ، بل يجري كلٌ حكمه من عموم أو خصوص .
وأما قولك : إن الحر لا يقتل بالعبد فلا أسلّم ، بل يقتل به قصاصاً ، فتعلقت بدعوى لا تصح لك .
وأما قولك : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } يعني المسلم فكذلك أقول ، ولكن هذا خصوص في العفو فلا يمنع من عموم القصاص . . الخ .
قال ابن العربي : وجرت مناظرة عظيمة ، حصلنا منها فوائد جمة ، أثبتناها في « نزهة الناظر » .
الحكم الثاني : هل يقتل الوالد إذا قتل ولده؟
قال الجمهور : لا يقتل الوالد إذا قتل ولده ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يُقتل وِالدٌ بولده » .
قال الجصاص : « وهذا خبرٌ مستفيض مشهور ، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه ، فكان في حيّز المتواتر » .
(1/75)

وقال مالك : يُقتل إذا تعمّد قتله بأن أضجعه وذبحه .
قال القرطبي : « لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمداً ، مثل أن يضجعه ويذبحه ، أو يصبره ، أنه يُقتل به قولاً واحداً ، فأمّا إن رماه بالسلاح أدباً وحنقاً لم يقتل به وتغلّظ الدية » .
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح للنصّ الوارد الذي أسلفناه ، ولأنّ الشفقة تمنعه من الإقدام على قتل ولده متعمداً ، بخلاف الابن إذا قتل أباه فإنه يقتل به من غير خلاف ، قال فخر الإسلام الشاشي : إن الأب كان سبب وجود الابن ، فكيف يكون هو سبب عدمه؟!
الحكم الثالث : هل يقتل الجماعة بالواحد؟
اختلف الفقهاء في الجماعة إذا اشتركوا في قتل إنسان هل يقتلون به؟ على مذهبين :
مذهب الجمهور والأئمة الأربعة : أن الجماعة يقتلون بالواحد .
مذهب الظاهرية : ورواية عن الإمام أحمد : أن الجماعة لا تقتل بالواحد .
دليل الظاهرية :
أ - استدل أهل الظاهر بآية القصاص { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } فقد شرطت المساواة والمماثلة ، قالوا : ولا مساواة بين الواحد والجماعة .
ب - واستدلوا بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] فالنفس تقابلها النفس ، ولا تقتل الأنفس بالنفس الواحدة لأنه مخالف لنص الآية .
دليل الجمهور :
أولاً ما روي أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة في غلام قتل بصنعاء وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم .
قال ابن كثير : ولا يُعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع .
ثانياً : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبّهم الله في النار » قالوا : فإذا اشتركوا في العقوبة الأخروية ، فإنهم يشتركون في العقوبة الدنيوية أيضاً .
ثالثاً : قالوا إن الشارع شرع القصاص لحفظ الأنفس { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة } ولو علم الناس أن الجماعة لا تقتل بالواحد ، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم ، ثم لم يقتلوا فتضيع دماء الناس ، وينتشر البغي والفساد في الأرض .
قال ابن العربي : « احتج علماؤنا بهذه الآية { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } على أحمد بن حنبل في قوله : لا تُقتل الجماعة بالواحد ، لأن الله شرط في القصاص المساواة ، ولا مساواة بين الواحد والجماعة .
والجواب : أن مراعاة القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ ، ولو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا واحداً لم يقتلوا به ، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم ، وبلغوا الأمل من التشفي منهم .
وجواب آخر : أن المراد بالقصاص قَتْلُ من قَتَل ، كائناً من كان ، رداً على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قُتل من لم يَقْتُل في مقابله الواحد بمائة افتخاراً واستظهاراً بالجاه والمقدرة ، فأمر الله بالمساواة والعدل ، وذلك بقتل من قتل » .
الحكم الرابع : كيف يُقتل الجاني عند القصاص؟
اختلف الفقهاء في كيفية القتل على مذهبين :
فذهب مالك والشافعي : ورواية عن أحمد ، أن القصاص يكون على الصفة التي قَتَل بها ، فمن قتل تغريقاً قُتل تغريقاً ، ومن رضخ رأس إنسان بحجر ، قُتل برضخ رأسه بالحجر ، واحتجوا بالآية الكريمة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } حيث أوجبت المماثلة فيقتص منه كما فعل .
(1/76)

واحتجوا بحديث أنس : « أن يهودياً رضخ رأس امرأة بحجر ، فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بحجر » .
وذهب أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه : إلى أن القتل لا يكون إلا بالسيف ، لأن المطلوب بالقصاص إتلاف نفسٍ بنفس ، واستدلوا بحديث : « لا قود إلاَّ بالسيف » وحديث « النهي عن المُثْلة » وحديث « إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة » وقالوا : إذا ثبت حديث أنس كان منسوخاً بالنهي عن المُثْلة .
وقالوا : إن القتل بغير السيف من التحريق ، والتفريق ، والرشخ بالحجارة ، والحبس حتى الموت ربما زاد على المثل فكان اعتداءً والله تعالى يقول : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقد حكي أن ( القاسم بن معن ) حضر مع ( شريك بن عبد الله ) عند بعض السلاطين ، فسأله ما تقول : فيمن رمى رجلاً بسهمٍ فقتله؟ قال : يُرمى فيقتل ، قال : فإن لم يمت بالرمية الأولى؟ قال : يُرمى ثانياً ، قال : أفتتخذونه غرضاً وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتخذ شيء من الحيوان غراً؟ ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة يكون أرجح والله أعلم .
الحكم الخامس : من الذي يتولى أمر القصاص؟
قال القرطبي : « اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتصَ من أحدٍ حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك للسلطان ، أو من نصبه السلطان لذلك ، ولهذا جعل الله السلطان ليقيض أيدي الناس بعضهم عن بعض » .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - تشريع القصاص فريضة من الله على عباده المؤمنين لصلاحهم وسعادتهم .
2 - القصاص يقلّل الجرائم ، ويقضي على الضغائن ويربي النجاة .
3 - في القصاص حياة النفوس ، وحماية الأفراد والمجتمعات البشرية .
4 - الاعتداء على غير القاتل من العصبية الجاهلية التي حاربها الإسلام .
5 - تجب المماثلة في القصاص حتى لا ينتشر البغي والظلم والعدوان .
6 - إذا عفا أولياء القتيل وقبلوا الدية فيجب دفعها لهم بدون مماطلة ولا تسويف .
7 - تخفيف العقوبة رحمة من الله على عباده المؤمنين يجب عليهم شكرها .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع المولى الحكيم العليم القصاص ، وأوجب تنفيذه على الحكام ، صيانة لدماء الناس ، ومحافظة على أرواح الأبرياء ، وقضاء على الفتنة في مهدها ، ذلك لأن أخذ الجاني بجنايته يكون زاجراً له ولغيره ، ورادعاً لأهل البغي والعدوان ، فإذا همّ أحدٌ بقتل أخيه ، أو تهيب خيفةً من القصاص ، فكفّ عن القتل ، فكان في ذلك حياةً له ، وحياة لمن أراد قتله ، وحياة لأفراد المجتمع ، وإذا بقي المعتدي يرتع ، دون جزاءٍ أو عقاب ، أدّى ذلك إلى إثارة الفتن ، واضطراب الأمن ، وتعريض المجتمع إلى سفك الدماء البريئة أخذاً بالثأر ، فإنّ الغضب للدم المراق فطرة في الإنسان ، والإسلام راعى ذلك فقرّر شريعة القصاص ، حتى يستلّ لأحقاد من القلوب ، ويقضي على أسباب البغي والخصام ، والعدوان .
(1/77)

ولكن الإسلام في الوقت الذي يفرض فيه القصاص ، يحبّب في العفو ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص العدل ، دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا إلزاماً يكبت فطرة الإنسان ، ويحملها مالا تطيق { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .
وقد نقل المولى - جل وعلا - بهذا التشريع الحكيم العقوبات ، من معنى انتقامي إلى معنى سام جليل ، فقد كانت العقوبات السالفة ، انتقاماً ينتقم بها المجتمع من المجرمين ، أو ينتقم بها أهل القتيل من أهل المقتول ، فلا يقبلون حتى يسفكوا مقابل الدم الواحد الدماء البريئة ويزهقوا الأرواح . وربما قتلوا بالرجل مائة رجل ، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب } ولم قل لكم فيه انتقام . ولقد رقت قلوب قوم من رجال ( التشريع الوضعي ) فاستفظعوا قتل القاتل ، ورحموه من القتل ، ولقد كان ( المقتول ظلماً ) أولى بالرحمة والشفقة والعطف ، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع من سطوة المجرمين من أهل الفساد!! وماذا نصنع مع العصابات التي كثرت في هذه الأيام واتخذت لها طريقاً إلى ترويع المجتمع بالسلب والنهب وسفك الدماء؟ لقد نظروا نظرة ضيقة بفكر غير سليم ، ولو نظروا عامة شاملة بفكر وعقل مستنير لرحموا الأمة من المجرمين ، بالأخذ بشدة على أيدي العابثين ، فإن من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم ، وكف عادية المعتدين .
(1/78)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
[ 8 ] فريضة الصيام على المسلمين
التحليل اللفظي
{ الصيام } : الصم في اللغة : الإمساكُ عن الشيء والتركُ له ، يقال : صامت الخيل إذا أمسكت عن السير ، وصامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب .
قال الراغب : الصوم : الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً ، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف صائمٌ ، قال الشاعر :
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحت العَجاج وأخرى تعلك الُّلجما
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري ، أو ممسكة عن الطعام ، وقال آخر :
حتّى إذا صام النهار واعتدل ... وسال للشمس لعابٌ فنزل
قال أبو عبيدة : كل ممسكٍ عن طعام ، أو كلام ، أو سير فهو صائم .
وفي الشرع : هو الإمساك عن الطعام ، والشراب ، والجماع ، مع النيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس . وكمالُه باجتناب المحظورات ، وعدم الوقوع في المحرمات .
{ فَعِدَّةٌ } : قال الراغب : العدّةُ هي الشيء المعدود ، ومنه قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } [ المدثر : 31 ] أي عددهم . والمعنى : عليه أيام عدد ما قد فاته من رمضان .
قال القرطبي : « والعِدّةُ فِعْلةٍ من العدّ وهي بمعنى المعدود ، كالطِحن بمعنى المطحون ، تقول : أسمع جعجعةً ولا أرى طِحناً ، ومنه عدة المرأة » .
{ أُخَرَ } : جمع أخرى ، أي أياماً أخرى ، وهي ممنوعة من الصرف لأنها معدولة عن آخر على رأي الكسائي ، وعن الألف واللام على رأي سيبويه ، مثل : الصُغَر ، والكُبَر . وإنما أوثر هنا الجمع لأنه لو جيء به مفرداً فقيل : عدة من أيامٍ أخرى لأوهم أنه وصفٌ لعدة فيفوت المقصود .
{ يُطِيقُونَهُ } : أي يصومونه بمشقة وعسر .
قال في « اللسان » : والإطاقة القدرة على الشيء ، وهو في طوقي أي وسعي ، وأطاق وإطاقة إذا قوي عليه .
وقال الراغب : والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة ، وشبّه بالطوق المحيط بالشيء .
{ فِدْيَةٌ } : الفدية ما يفدي به الإنسان نفسه من مال وغيره ، بسبب تقصير وقع منه في عبادة من العبادات ، وهي تشبه الكفّارة من بعض الوجوه .
{ شَهْرُ } : الشهرُ معروف ، وأصله من الاشتهار وهو الظهور ، يقال : شهر الأمر أظهره ، وشهرالسيف استلّه ، وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره ، لكونه ميقاتاً للعبادات والمعاملات ، فصار مشتهراً بين الناس .
{ رَمَضَانَ } : قال الراغب : رمضان هو الرّمض أي شدة وقع الشمس ، والرمضاء شدة حر الشمس ، ورمضت الغنم : رعت في الرمضاء فقرحت أكبادنا . وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها .
قال الزمخشري : « لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، سموّها بالأزموة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ فسمي رمضان » .
وقيل : إنما سمّي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة .
{ الرفث } : الجماع ودواعيه ، قال الراغب : الرفث : كلامٌ متضمنٌ لما يُستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه ، وقد جعل كناية عن الجماع في قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } تنبيهاً إلى جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه .
(1/79)

وأصل الرفث : قول الفحش ثم كنّي به عن الجماع قال الشاعر :
ويُرَيْن من أُنْس الحديث زوانياً ... وبهنّ عن رفث الرجال نِفَار
قال ابن عباس : الرفث هو الجماع ، إن الله عز وجل كريم حليم يكني .
{ تَخْتانُونَ } : الاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب ، ومعناه : مراودة الخيانة .
قال في « اللسان » : خانه واختانه ، والمخانة مصدر من الخيانة وهي ضد الأمانة قال الشاعر :
يتحدثون مَخَانةً وملاذَةً ... ويُعاب قائلهم وإن لم يشْغب
وسئل بعضهم عن السيف فقال : أخوك وإن خانك ، وكل ما غيّرك عن حالك فقد تخوّنك .
قال الراغب : الخيانة مقابل الأمانة ، والاختيان : مراودة الخيانة ، ولم يقل : ( تخونون أنفسكم ) لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، وهو تحرك شهوة الإنسان للوقوع في الخيانة .
{ عاكفون } : العكوف والاعتكاف أصله اللزوم ، يقال : عكفت بالمكان أي أقمت به ملازماً قال تعالى : { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } [ طه : 91 ] وقال الشاعر :
فبات بنات الليل حولي عُكّفاً ... عكوف البواكي بينهن صريع
وفي الشرع هو المكث في المسجد للعبادة بنيّة القربة لله تعالى .
{ حُدُودُ الله } : الحدود جمع حدّ ، والحدّ في اللغة : المنع ، ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمتنع به من الأعداء ، وسمي البوّاب حدّاداً لأنه يمنع من الدخول أو الخروج إلا بإذن ، وأحدّث المرأة على زوجها إذا تركت الزينة وامتنعت منها .
قال الزجاج : « الحدودُ ما منع الله تعالى من مخالفتها ، فلا يجوز مجازوتها » .
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ وعلا أنه قد فرض الصيام على عباده المؤمنين ، كما فرضه على من سبقهم من أهل الملل ، وقد علّل فرضيته ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العليا ، وهي أن يُعدّ نفس الصائم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة امتثالاً لأمره تعالى ، واحتساباً للأجر عنده ، ليكون المؤمن من المتقين لله المجتنبين لمحارمه .
وهذا الصيام الذي فرضه الله على عباده ، إنما هو أيام معينات بالعدد ، وهي أيام رمضان ، ولم يفرض الله عليكم الدهر كله ، تخفيفاً ورحمة بهم ، ومع هذه الرحمة في الصيام فقد شرع للمريض الذي يضره الصوم ، والمسافر الذي يشق عليه أن يفطرا ويقضيا أياماً بقدر الأيام التي أفطرا فيها وذلك من التيسير على العباد والرحمة بهم ، ثم أخبر تعالى أن هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه هو شهر رمضان ، شهر ابتداء نزول القرآن ، الكتاب العظيم الذي أكرم الله به الأمة المحمدية ، فجعله دستوراً لهم ، ونظاماً يتمسكون به في حياتهم ، فيه النور ، والهدى ، والضياء ، وهو سبيل السعادة لمن أراد أن يسلك طريقها ، وقد أكدّ الباري صيام هذا الشهر ، لأنه شهر تنزّل الرحمة الإلهية على العباد ، وأنه تعالى لا يريد بعباده إلا اليُسر والسهولة ، ولذلك فقد أباح للمريض والمسافر الإفطار في أيام رمضان .
ثم بيّن تعالى أنه قريب ، يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين ، وليس بينه وبين أحدٍ من العباد حجاب ، فعليهم أن يتوجهوا إليه وحده بالدعاء والتضرع ، حنفاء مخلصين له الدين .
(1/80)

وقد يسّر تعالى على عباده وأباح لهم التمتع بالنساء في ليالي رمضان ، كما أباح لهم الطعام والشراب ، وقد كان ذلك من قبل محرماً عليهم ، ولكنّه تعالى أباح لهم الطعام والشراب ، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء ، ليظهر فضله عليهم ، ورحمته بهم ، وقد شبّه المرأة باللباس الذي يستر البدن ، فهي ستر للرجل وسكن له ، وهو ستر لها ، قال ابن عباس معناه « هنّ سكنٌ لكم وأنتم سكن لهنّ » وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر ، ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة ، مباشرتهن وقت الاعتكاف لأنه وقت تبتل وانقطاع للعبادة ، ثمّ ختم تعالى هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مخالفة أوامره ، وارتكاب المحرمات والمعاصي ، التي هي حدود الله ، وقد بيّنها لعباده حتى يجتنبوها ، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله ليكونوا من المتقين .
سبب النزول
1 - روى ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر » ، ثم إن الله عز وجل فرض شهر رمضان ، فأنزل الله تعالى ذكره { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } حتى بلغ { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً ، ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم ، فأنزل الله عز وجل { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . . . } .
2 - وروُي عن سلمة بن الأكوع أنه قال « لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من شاء منا صام ، ومن شاء أن يفطلر ويفتدي فعل ذلك ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
3 - وروي أن جماعة من الأعراب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه؟ أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ . . . } الآية .
4 - وروي البخاري عن ( البراء بن عازب ) أنه قال : » كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإنّ ( قيس بن صرمة ) الأنصاري كان صائماً ، وكان يعمل بالنخيل في النهار ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندكِ طعامٌ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلقُ فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبةً لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } ففرحوا فرحاً شديداً ، فنزلت { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } .
(1/81)

وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور ( وعلى الذين يُطيقونه ) وقرأ ابن عباس ( يُطَوّقونه ) بمعنى يكلّفونه .
2 - قرأ الجمهور ( فديةٌ طعامُ مسكينٍ ) وقرأ نافع وابن عامر ( فديةُ طعامِ مساكين ) بجمع مساكين ، وإضافة ( فدية ) إلى ( طعام ) .
3 - قرأ الجمهور ( فمن تطوّع ) على الماضي وقرأ حمزة والكسائي ( فمن تطوّعُ ) بالجزم على معنى يتطوّع ، وقرئ ( فمنّ يطّوع ) على أنه مضارع .
4 - قرأ الجمهور ( ولتُكْملوا العدّة ) بالتخفيف ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ( ولتُكَمّلوا ) بالتشديد .
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } الكاف للتشبيه وهي صفة لمصدر محذوف و ( ما ) مصدرية ، والتقدير : كُتب عليكم الصيامُ كتابةً مثل كتابته على من قبلكم .
2 - قوله تعالى : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } قال الزجاج : منصوب على الظرف كأنه قال : كتب عليكم في هذه الأيام والعامل فيه الصيام . قال العكبري : لا يجوز أن ينتصب على الظرف ، ولا على أنه مفعول به على السّعة لأن المصدر إذا وصف لا يعمل ، والوجه أن يكون العامل محذوفاً تقديره : صوموا أياماً .
3 - قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } تقديره : فعليه عدّةٌ فيكون ارتفاع ( عدة ) على الابتداء والخير محذوف ، وأخر صفة لعدة لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام .
4 - قوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أن تصوموا في موضع مبتدأ و ( خير ) خبره والتقدير صيامكم خير لكم ، و { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } شرط حذف منه الجواب لدلالة ما قبله .
5 - قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } الشهرَ منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في ( فليصمْه ) ولا يكون مفعولاً به ، لأنه يلزم حينئذٍ المسافر لأنه شهد الشهر ، قال الزمخشري : « المعنى فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر فليصم في الشهر ولا يفطر » .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أشارت الآية الكريمة إلى أن الصوم عبادة قديمة ، فرضها الله على الأمم قبلنا ، ولكنّ أهل الكتاب غيّروا وبدّلوا في هذه الفريضة ، وقد كان يتفق في الحر الشديد أو البرد الشديد ، فحوّلوه إلى الربيع وزادوا في عده حتى جعلوه خمسين يوماً كفارة لذلك .
روى الطبري بسنده عن الدُّي أنه قال : « كُتب على النصارى شهرُ - رمضان ، وكُتب عليهم ألاّ يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ، ولا أن ينكحوا النساء في شهر رمضان ، فاشتد على النصارى صيام رمضان ، وجعل يُقلّب عليهم في الشتاء والصيف ، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف ( يعني الربيع ) وقالوا : نزيد عشرين يوماً نكفّر بهما ما صنعنا فجعلوا صيامهم خمسين » .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قال ابن العربي : هذا القول من لطيف الفصاحة لأن تقديره : فأفطر فعدةٌ من أيام أخر ، فحذف الشرط والمضاف ثقة بالظهور .
(1/82)

اللطيفة الثالثة : بيّن المولى جل ثناؤه أن الصوم يورث التقوى { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وهذا تقليل لفريضة الصيام ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العليا ، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة ، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده ، فتتربى بذلك إرادته على ملكة التقوى بترك الشهوات المحرمة ، فالصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين ، كما قيل في المثل السائر : ( المرء يسعى لغاريه : بطنه ، وفرجه ) .
اللطيفة الرابعة : قال القفال رحمه الله : « انظروا إلى عجيب ما نبّه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فقد نبّه إلى ما يلي :
أولاً : أنّ لهذه الأمة في شريعة الصيام أسوة بالأمم المتقدمة .
ثانياً : أن الصوم سبب لحصول التقوى ، فلو لم يُفرض لفات هذا المقصود الشريف .
ثالثاً : أنه مختص بأيام معدودات ، فإنه لو جعله أبداً لحصلت المشقة العظيمة .
رابعاً : أنه خصّه من بين الشهور بالشهر الذي أًنزل فيه القرآن ، لكونه أشرف الشهور .
خامساً : إزالة المشقة في إلزامه - فقد أباح تأخيره لمن يشق عله من المسافرين والمرضى ، فهو سبحانه قد راعى في فريضة الصيام هذه الوجوه من الرحمة ، فله الحمد على نعمه التي لا تحصى .
اللطيفة الخامسة : أفاد قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } أن الشيخ الكبير والمرأة العجوز يجوز لهما الإفطار مع الفدية ، والعرب تقول : أطاق الشيء إذا كانت قدرته في نهاية الضعف ، بحيث يتحمل به مشقة عظيمة ، وهو مشتق من الطوق وعليه قول الراغب : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] أي ما يصعب علينا مزاولته .
والطاقة : اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة ، والوُسْعُ : اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة ، فتنبه له فإنه دقيق .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } المراد شهود الوقت لا شهود رؤية الهلال ، إذ قد لا يراه إلا واحد أو اثنان ويجب صيامه على جميع المسلمين ، و ( شهد ) بمعنى حضر ، وفيه إضمارٌ أي من شهد منكم الشهر مقيماً غير مسافر ولا مريض فليصمه ، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان ، أفاده أبو السعود .
اللطيفة السابعة : قوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } هذه الآية فيها من المحسّنات البديعية ما يسمى ( طباق السلب ) وهي أصل في الدين ومنها أخذ الفقهاء القاعدة الأصولية ( المشقّة تجلب التيسير ) فالله تبارك وتعالى لا يريد بتشريعه إعنات الناس ، وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم .
اللطيفة الثامنة : قال العلامة الزمخشري قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي شرع ذلك يعني جملة ما ذكر ، من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأم المريض والمسافر بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : { وَلِتُكْمِلُواْ } علة الأمر بمراعاة العدة ، ( ولتكبّروا ) علة ما عُلم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللّف والنشر ، لطيف المسلك ، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان .
(1/83)

اللطيفة التاسعة : عبّر المولى جل وعلا عن المباشرة الجنسية التي تكون بين الزوجين بتعبير سامٍ لطيف ، لتعليمنا الأدب في الأمور التي تتعلق بالنساء { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } فالتعبير على طريقة الاستعارة والمراد اشتمال بعضهم على بعض لما تشتمل الملابس على الأجسام .
قال الإمام الفخر : « لمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان ، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه ، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، سُمّي كل واحد منهما لباساً » .
اللطيفة العاشرة : قوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } .
قال الشريف الرضي : « هذه استعارةٌ عجيبة ، والمراد بها حتى يتبيّن بياضُ الصبحُ من سواد الليل ، والخيطان هاهنا مجاز ، وإنما شبّهها بذلك لأنّ بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً ، ويكون سواد الليل منقضياً موليّاً ، فهما جميعاً ضعيفان ، إلاّ أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً » .
روي أنه لما نزلت الآية « قال ( عدي بن حاتم ) أخذتُ عقالين : أبيض ، وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليها ، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : » إنك لعريض القفا ، إنما ذلك بياضُ النهار وسوادُ الليل « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل فرض على المسلمين صيامٌ قبل رمضان؟
يدل ظاهر قوله تعالى : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } على أن المفروض على المسلمين من الصيام إنما هو هذه الأيام ( أيام رمضان ) وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين ، وهو مروي عن ابن عباس والحسن ، واختاره ابن جرير الطبري .
وروي عن قتادة وعطاء أن المفروض على المسلمين كان ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم فرض عليهم صوم رمضان ، وحجتهم أن قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } يدل على أنه واجب على التخيير ، وأمّا صوم رمضان فإنه واجب على التعيين ، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان .
واستدل الجمهور بأن قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } مجمل يحتمل أن يكون يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك فبينه بعض البيان بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } وهذا أيضاً يحتمل أن يكون أسبوعاً أو شهراً ، فبيّنه تعالى بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ } فكان ذلك حجة واضحة على أنّ الذي فرضه على المسلمين هو شهر رمضان .
(1/84)

قال ابن جرير الطبري : « وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال : عنى جل ثناؤه بقوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أيام شهر رمضان ، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم رمضان ، لأن الله تعالى قد بيّن في سياق الآية أن الصوم الذي أوجبه علينا هو صوم شهر رمضان دون غيره من الأوقات ، بإبانته عن الأيام التي كتب علينا صومها بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } فتأويل الآية كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام ، كما كتب على من قبلكم لعلكم تتقون ، أياماً معدودات هي شهر رمضان » .
الحكم الثاني : ما هو المرض والسفر المبيح للإفطار؟
أباح الله تعالى للمريض والمسافر الفطر في رمضان ، رحمة بالعباد وتيسيراً عليهم ، وقد اختلف الفقهاء في المرض المبيح للفطر على أقوال :
أولاً - قال أهل الظاهر : مطلق المرض والسفر يبيح للإنسان الإفطار حتى ولو كان السفر قصيراً والمرض يسيراً حتى من وجع الإصبع والضرس ، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين .
ثانياً - وقال بعض العلماء إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجُهد ، وكذلك المسافر الذي يُضينه السفر ويُجهده ، وهو قول الأصم .
ثالثاً - وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر ، هو المرض الشديد الذي يؤدي إلى ضرر في النفس ، أو زيادةٍ في العلة ، أو يُخشى معه تأخر البرء ، والسفر الطويل الذي يؤدي إلى مشقةً في الغالب ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
دليل الظاهرية :
استدل أهل الظاهر بعموم الآية الكريمة { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ } حيث أُطلق اللفظ ولم يُقيّد المرض بالشديد ، ولا السفر بالبعيد ، فمطلق المرض والسفر يبيح الإفطار ، حكي أنهم دخلوا على ( ابن سيرين ) في رمضان وهو يأكل ، فاعتلّ بوجع أصبعه .
وقال داود : الرخصة حاصلة في كل سفر ، ولو كان السفر فرسخاً لأنه يقال له : مسافر ، وهذا ما دل عليه ظاهر القرآن .
دليل الجمهور :
استدل جمهور الفقهاء على أن المرض اليسير الذي لا كلفة معه لا يبيح الإفطار بقوله تعالى في آية الصيام { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } فالآية قد دلت على أن الفرض من الترخيص .
المرض خفيفاً والسفر قريباً فلا يقال إن هناك مشقة رفعت عن الصائم ، فأي مشقة من وجع الأصبع والضرس؟
الترجيح : أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح الذي يتقبله العقل بقبول حسن ، فإن الحكمة التي من أجلها رُخّص للمريض في الإفطار هي إرادة اليسر ، ولا يراد اليسر إلاّ عند وجود المشقة ، فأي مشقةٍ في وجع الأصبع ، أو الصداع الخفيف والمرض اليسير ، الذي لا كلفة معه في الصيام؟ ثمّ إن من الأمراض ما لا يكون شفاؤه إلا بالصيام ، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك؟ ولم يكلفنا الله جلّ وعلا إلاّ على حسب ما يكون في غالب الظن ، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سبباً للمرض ، أو زيادة العّلة ، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمرٌ يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين .
(1/85)

قال القرطبي : « للمريض حالتان : إحداهما - ألاّ يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً .
الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة ، فهذا يستحب له الفطر ، ولا يصوم إلا جاهل وقال جمهور العلماء : إذا كان به مرضٌ يؤلمه ويؤذيه ، أو يخاف تماديه ، أو يخاف زيادته صحّ له الفطر ، واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر ، فقال مرة : هو خوف التلف من الصيام ، وقال مرة : هو شدة المرض ، والزيادة فيه ، والمشقة الفادحة ، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر » .
الحكم الثالث : ما هو السفر المبيح للإفطار؟
وأما السفر المبيح للإفطار فقد اختلف الفقهاء فيه بعد اتفاقهم على أنه لا بدّ أن يكون سفراً طويلاً على أقوال :
أ - قال الأوزاعي : السفر المبيح للفطر مسافة يوم .
ب - وقال الشافعي وأحمد : هو مسيرة يومين وليلتين ، ويقدر بستة عشر فرسخاً .
ج - وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاثة أيام بلياليها ويقدر بأربعة وعشرين فرسخاً .
حجة الأوزاعي :
أنّ السفر أقل من يوم سفرٌ قصير قد يتفق للمقيم ، والغالب أن المسافر هو الذي لا يتمكن من الرجوع إلى أهله في ذلك اليوم ، فلا بدّ أن يكون أقل مدة للسفر يومٌ واحد حتى يباح له الفطر .
حجة الشافعي وأحمد :
أولاً : أن السفر الشرعي هو الذي تُقصر فيه الصلاة ، وتعبُ اليوم الواحد يسهل تحمله ، أمّا إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة .
ثانياً : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرد من مكة إلى عسفان » .
قال أهل اللغة : وكل بريد أربعة فراسخ ، فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً .
ثالثاً : ما روي عن عطاء أنه قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة؟ فقال : لا ، فقال : إلى مرّ الظهران؟ فقال : لا ، ولكن أقصر إلى جدة ، وعسفان ، والطائف .
قال القرطبي : والذي في « البخاري » : « وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً » .
وهذا هو المشهور من مذهب مالك رحمه الله ، وقد روي عنه أنه قال : أقله يوم وليلة ، واستدل بحديث « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يومٍ وليلة إلا ومعها ذو محرم » رواه البخاري .
حجة أبي حنيفة والثوري :
أولاً : واحتج أبو حنيفة بأن قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يوجب الصوم ، ولكنّا تركناه في ثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها ، أما فيما دونها فمختلف فيه فوجب الصوم احتياطياً .
(1/86)

ثانياً : واحتج بقوله عليه السلام : « يمسح المقيم يوماً وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها » فقد جعل الشارع علة المسح ثلاثة أيام السفرُ ، والرخص لا تعلم إلاّ من الشرع ، فوجب اعتبار الثلاث سفراً شرعياً .
ثالثاً : وبقوله عليه الصلاة والسلام : « لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم » فتبيّن أن الثلاثة قد تعلق بها حكم شرعي ، وغيرها لم يتعلق فوجب تقديرها في إباحة الفطر .
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » : « وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاّ ومعها ذو محرم « وفي حديث ( سفر ثلاثة أيام ) فرأى أبو حنيفة أن السفر يتحقق في أيام : يوم يتحمل فيه عن أهله ، ويوم ينزل فيه في مستقره ، واليوم الأوسط هو الذي يتحقق فيه السير المجرد ، فرجل احتاط وزاد ، ورجل ترخّص ، ورجل تقصّر » .
أقول : أمور العبادة ينبغي فيها الاحتياط ، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر مسيرة ثلاثة أيام ، وثبت يوم وليلة وكلاهما في الصحيح ، لذا كان العمل بالثلاث أحوط ، فلعل ما ذهب إليه أبو حنيفة يكون أرجح والله أعلم .
الحكم الرابع : هل الإفطار للمريض والمسافر رخصة أم عزيمة؟
ذهب أهل الظاهر إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ، ويصوما عدة من أيام أخرى ، وأنهما لو صاما لا يجزئ صومهما لقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والمعنى : فعليه عدة من أيام أخر ، وهذا يقتضي الوجوب . وبقوله عليه السلام : « ليس من البر الصيام في السفر » وقد روي هذا عن بعض علماء السلف .
وذهب الجمهور وفقهاء الأمصار إلى أن الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر وإن شاء صام واستدلوا بما يلي :
1 - قالوا : إن في الآية إضماراً تقديره : فأفطر فعليه عدة من أيام أخر ، وهو نظير قوله تعالى : { فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] والتقدير : فضرب فانفجرت ، وكذلك قوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] أي فحلق فعليه فدية والإضمار في القرآن كثير لا ينكره إلا جاهل .
ب - واستدلوا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض أنه صام في السفر .
ج - وبما ثبت عن أنس قال : « سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم » .
د - وقالوا : إن المرض والسفر من موجبات اليسر شرعاً وعقلاً ، فلا يصح أن يكونا سبباً للعسر .
(1/87)

وأما ما استدل به أهل الظاهر من قوله عليه السلام « ليس من البر الصيام في السفر » فهذا واردٌ على سبب خاص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يظلّل والزحام عليه شديد فسأل عنه فقالوا : صائم أجهده العطش فذكر الحديث .
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » : « وقد عُزي إلى قوم : إن سافر في رمضان قضاه ، صامه أو أفطره ، وهذا لا يقول به إلا الضعاء الأعاجم ، فإن جزالة القول ، وقوة الفصاحة ، تقتضي تقدير ( فأفطر ) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصوم في السفر قولاً وفعلاً ، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره » .
الحكم الخامس : هل الصيام أفضل أم الإفطار؟
وقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل؟
فذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك إلى أن الصيام أفضل لمن قوي عليه ، ومن لم يقو على الصيام كان الفطر له أفضل ، أما الأول فلقوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } وأما الثاني فلقوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .
وذهب أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل أخذاً بالرخصة ، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه .
وذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أنّ أفضلهما أيسرهما على المرء .
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم .
الحكم السادس : هل يجب قضاء الصيام متتابعاً؟
ذهب علي ، وابن عمر ، والشعبي إلى أنّ من أفطر لعذرٍ كمرضٍ أو سفر قضاه متتابعاً ، وحجتهم أن القضاء نظير الأداء ، فلما كان الأداء متتابعاً ، فكذلك القضاء .
وذهب الجمهور إلى أن القضاء يجوز فيه كيف ما كان ، متفرقاً أو متتابعاً ، وحجتهم قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فالآية لم تشترط إلاّ صيام أيام بقدر الأيام التي أفطرها ، وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات ، فأي يومٍ صامه قضاءً أجزأه .
واستدلوا بما روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : « إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواصل وإن شئت ففرّق » .
الترجيح : والراجح ما ذهب إليه الجمهور لوضوح أدلتهم والله أعلم .
الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } ؟
يرى بعض العلماء أن الصيام كان قد شرع ابتداءً على التخيير ، فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى ، يطعم عن كل يوم مسكيناً ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وهذا رأي الأكثرين واستدلوا لما رواه البخاري ومسلم عن ( سلمة بن الأكوع ) أنه قال : لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } كان من شاء منّا صام ، ومن شاء أفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وهذا مروي عن ابن مسعود ، ومعاذ ، وابن عمر وغيرهم .
(1/88)

ويرى آخرنن أن الآية غير منسوخة ، وأنها نزلت في الشيخ الكبير ، والمرأة العجوز ، والمريض الذي يُجهده الصوم ، وهذا مروي عن ابن عباس .
قال ابن عباس : ( رخّص للشيخ الكبير أن يفطر ، ويطعم عن كل يوم مسكيناً ، ولا قضاء عليه ) .
وروى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال ابن عباس : ليست بمنسوخة ، هي للشيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة ، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً .
وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة ، ويكون معنى قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدّة والمشقة ، ويؤيده قراءة { يطوّقونه } أي يكلّفونه مع المشقة .
الحكم الثامن : ما هو حكم الحامل والمرضع؟
الحبلى والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما أفطرتا ، لأن حكمهما حكم المريض ، وقد سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما فقال : أيّ مرضٍ أشد من الحمل؟ تفطر وتقضي .
وهذا باتفاق الفقهاء ، ولكنهم اختلفوا هل يجب عليهما القضاء مع الفدية ، أم يجب القضاء فقط؟
ذهب أبو حنيفة إلى أن الواجب عليهما هو القضاء فقط ، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن عليهما القضاء مع الفدية .
حجة الشافعي وأحمد :
أن الحامل والمرضع داخلتان في منطوق الآية الكريمة { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } لأنها تشمل الشيخ الكبير ، والمرأة الفانية ، وكل من يُجهده الصوم فعليهما الفدية كما تجب على الشيخ الكبير .
حجة أبي حنيفة :
أولاً : أن الحامل والمرضع في حكم المريض ، ألا ترى إلى قول الحسن البصري : أي مرضٍ أشدّ من الحمل؟ يفطران ويقضيان ، فلم يوجب عليهما غير القضاء .
ثانياً : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه ، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته ومانته ، فلن يأتيه يوم يستطيع فيه الصيام ، أما الحامل والمرضع فإنهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة للزوال ، فالقضاء واجب عليهما ، فلو أجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز ، لأن القضاء بدل ، والفدية بدل ، ولا يمكن الجمع بينهما لأن الواجب أحدهما .
وقد روي عن الإمام أحمد والشافعي أنهما إن خافتا على الولد فقط وأفطرتا فعليهما القضاء والفدية ، وإن خافتا على أنفسهما فقط ، أو على أنفسهما وعلى ولدهما ، فعليهما القضاء لا غير .
الحكم التاسع : بم يثبت شهر رمضان؟
يثبت شهر رمضان برؤية الهلال ، ولو من واحد عدل أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً ، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً » .
(1/89)

0 Response to "1 الكتاب : آيات الأحكام 001"

Posting Komentar